كان ينمو بسرعة الماء الهادرِ بعد سدّ لهم مُنهدِم.. حتى اكتمل، وإذا اكتمل ظهر. رافقته ليلاً في مِشيةٍ هادئة، كان كزهرةٍ كبيرة مُنتعِشة بماء ريّ صافٍ، لكنها ما زالت تقفل ورقاتها معي إلا ما هزته بعنفٍ نسمةُ هواءٍ شاردةٌ آتيةٌ من أول مَطاف بذور سعادته، ومختلطة بعَبِق ليل الصيف وتحرر الروح بعد انتهاء بياتها الشتوي، فتتفتَّح وريقات منها رغماً عنها وعلى استحياءٍ معي. أسمع أخيراً همسه من دمعةٍ خلف جفنهِ، تثقل عليها المشاعر فتدحرجها قليلاً حتى تسقط، وتهرب منها الكلمات في شكل تنهيدةٍ بها ألف كلمة وشوق وأمنية. والذي آلمني أنَّ أنفاسه الشجاعة كانت مختلطة بذرات خوف، من ألا يَلقى حبه، وخوف أشد من أن يُلقى في قبور الأموات الأحياء، والخوف الأسوأ: أن أكتب في يومٍ رثائه! والذي آلمني أكثر أنَّ زهورنا الطيبة نبتت في أرضٍ سوداء قاحلةٍ لا تَسقِي أزهارها بسوى الدماء، ومحاطة بأشواك الألم والفقد. وأثناء تلك المِشية معه تمنيتُ أن يهدأ العَالَم وتسكن كل الأرض، وتخفُت أضواء البشر، ويغفو القمر، وتنعس النجوم في ليلتها إلا من نجمٍ هادئٍ واثقٍ يبيت حارساً لهم، فينير "له" حتى يسير بحيائه الخافت عجلاً قبل أن يكشف سترَ حيائه أحد، فيلتقي سكنه، ويبيت أخيراً في قلبه، ثم يطيران معاً بعيداً بعيداً في عباءة السعادة وزمرة السعداء. لطمَ الهدوءَ فجأةً، وقطع حبل التمني، وطعن الخيال في أعلى نقطة لا محدودة يمكن الوصول إليها.. زَجَرةُ عُوَاءِ الوحوش الضارية المستيقظة من غفلتها، باحثة عن مثل تلك الزهور. جرى مذعوراً، هاتَفَ قلبي ببكائه مستغيثاً "أين أذهب؟ وماذا أفعل؟!".. جلجلة العواء المُرعِب وكتمانه المتأهب خلف أنيابهم يهدم كل مباني تفكيري، ويُسرِّعُ نمو خلايا ذكائي فتنضج قبل وقتها فتفقد وظيفتها. وتفكيري المنهدم مع ذكائي التالف يقيدان لساني على الحركة فلا يجيبه بغير اللعثمة: "إذن دعني أقابلك ثانية، فأطمئنُ عليك وأرشدك إلى تلك المنارة ومنها أو بها ستعرف وجهتك وستنجو". في ليلةٍ أعرف ملامح سمائها جيداً، وأرى خيوطَ ليلِ ظلامها بدقة، وأكاد أذكر ما كانت تحمله أنفاسي من مشاعري المختلطة وأثقالها واحدةً تلو الأخرى! فزعت النجوم، وانتبه القمر مذعوراً، وأزعجت أنوارُ الأرض سماءه، وصرخ الجميع، حتى قطعة السماء في الأرض "الكعبة" ارتجف فيها صدى الصوت. لم تكن صرخة "منه"، بل كان نَفَساً هادئاً أخيراً عندما صرعته الوحوش. تجاوز -هذا النَفَسُ- صدى الصوت.. حتى كان هو خلاصة الصوت! لقد ذبحت الوحوشُ "الحبَّ" وأجهزت عليه! لقد تجاوزوا الهيِّنَ مع الله.. وأتى أمر الله فلا تستعجلوه. "الحبُّ" كان صديقي.. وصديقي كان زهرةَ الحب، وما تمنى أو تمنيتُ غير الحب. وزهرة الحب إذا قُتلت لا تجد من أثر عبقها غير ريح البراكين النشطة في القلوب المكلومة، تنتظر لحظة انفجارها وانطلاق حممها حتى تطهر الأرض كلها فتعود مروجاً خضراء أفضل مما كانت.. فانتظروا.. إنَّا منتظرون. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :