المخرج المغربي نبيل عيوش إلى مدينة الدار البيضاء أو “كازابلانكا” التي يعتبرها مقياسا حقيقيا لحرارة ما يحدث في المغرب اليوم. العرب أمير العمري [نُشر في 2017/10/10، العدد: 10777، ص(16)]طموح عاشق للموسيقى يصطدم بمعارضة والده يظل فيلم المخرج المغربي نبيل عيوش “يا خيل الله” (2012) في رأيي، أفضل أفلامه حتى الآن، فقد كان عملا متكاملا من حيث الشكل والمضمون، ولم يكن عيوش يبعث من خلاله برسالة بقدر ما كان يرصد ويحلل صعود ظاهرة التطرف الإسلامي في المغرب من خلال بناء رصين محكم وسيطرة كاملة على المكان والشخصيات. عاد عيوش في 2015 بفيلم “الزين اللي فيك” الذي أثار ضجة كبيرة بسبب تصويره الجريء لعالم العاهرات في مدينة مراكش من خلال أربع شخصيات لم يكن السيناريو متوازنا في رسم معالمها، وبتركيز كبير على مشاهد الإثارة مما جعل الفيلم رغم قوة موضوعه، يسقط في دائرة “الاستغلال التجاري”. وفي الفيلم الجديد “غزية” (وهي كلمة تعني “غزوة” في اللهجة المغربية) يسعى عيوش لتلخيص واقع المغرب الحالي من خلال صورة صغيرة “ميكروكوزمية” للكثير من التناقضات الاجتماعية، فهو يلمس ولكن من دون إشباع موضوع الكبت والقمع وإنكار الهوية والاضطهاد العنصري والديني، وكيف أصبح الإنسان عاجزا عن التحرر، ما جعل المغرب يقف اليوم أمام تحولات كبرى. ويتكون الفيلم الذي اشترك عيوش في كتابته مع زوجته الممثلة مريم التوزاني (التي تقوم بدور رئيسي فيه) من خمس قصص -أو بالأحرى خمسة خطوط- تتداخل وتتقاطع معا دون ترتيب، ودون أن تكون هناك علاقة مباشرة واضحة بين الخطوط الخمسة. مشكلة الهوية نبيل عيوش لا يريد أن يروي قصة واحدة تدور في المدينة من خلال شخصيات كانت ترتبط بمكان آخر في الماضي بصلة واهية تماما، ولكونه متعدد الخطوط والشخصيات دون اهتمام بالربط فيما بينها من خلال حبكة قوية، يفقد الفيلم تأثيره، ويأتي سطحيا يشوبه الكثير من الغموض، ويعاني من الترهل في منتصفه. يحاول عيوش التغطية على هزال السيناريو بالإفراط في تصوير مشاهد الحفلات التي تمتلئ بالرقص والغناء والموسيقى (لا أقل من 4 مشاهد)، تخلق عالما زائفا حينا وتتناقض بالتالي مع واقع رجل الشارع البائس الذي بدأ في التعبير عن غضبه في التظاهرات الشعبية التي وقعت في الدار البيضاء في 2015، أو يقصد من ورائها الحنين إلى مغرب الأمس، حينما كان التسامح قائما قبل طغيان النزعة الدينية المتطرفة.نبيل عيوش لا يريد أن يروي قصة واحدة تدور في المدينة من خلال شخصيات كانت ترتبط بمكان آخر في الماضي بصلة واهية تماما، ولكونه متعدد الخطوط والشخصيات دون اهتمام بالربط فيما بينها من خلال حبكة قوية ويعاني الفيلم من غياب واضح لوحدة الموضوع، ومن النزوع لعرض أكثر من فكرة وربطها في النهاية باندلاع تظاهرات الغضب في المدينة، فمن حيث البناء والنسق الدرامي ونمط السرد، يسير الفيلم في خطوط متقاطعة دون أن يكون لتقاطعها هذا منطق درامي محدد، وهو يتوسع في قصة ما، ويبتر قصة أخرى، فيضطرب الإيقاع وتكثر الاستطرادات بغرض التغطية على ضعف المادة الدرامية وهزالها. القصة الأولى أكثر القصص بروزا وأهمية وجمالا في التصوير، فهي تدور في إحدى قرى جبال الأطلس عام 1982، حيث يقوم مدرس شاب هو “عبدالله” بتعليم الأطفال مستخدما اللغة الأمازيغية التي يعرفونها في تلك المنطقة، وفجأة يصل مبعوث من وزارة التعليم يخبره باللوائح الجديدة التي تقضي بضرورة استخدام اللغة العربية، يراقب هذا المبعوث عمل عبدالله للتأكد من اتباع التعليمات، كما يفرض تطعيم المواد الدراسية بالأفكار الدينية الإسلامية. يجد عبدالله نفسه عاجزا عن مواصلة العمل في ظل هذا القهر مع عجز تلاميذه عن استيعاب الدروس باللغة العربية، يذهب أحيانا إلى دار حبيبته “إيتو” فتشجعه على البقاء والصمود والمقاومة، ونسمع على شريط الصوت تساؤلات ذاتية في قالب شعري عن معنى وجوده مع شعوره بالعجز ورغبته في الفرار من المنطقة بأسرها، وينتهي بأن يركب حافلة ويغادر إلى الدار البيضاء. تمر 33 سنة وننتقل إلى الدار البيضاء في 2015، حيث تدور القصص الأربع الأخرى، هناك أولا “سالمة” وهي امرأة عصرية جميلة متحررة، تدخن وتضع الماكياج والرموش الصناعية، وترتدي الملابس القصيرة الضيقة، تتردد على الحفلات سواء مع رجل الأعمال الذي تعاشره والذي ينتمي للطبقة الجديدة أو بمفردها، تختلط بالنساء وتلهو وترقص معهنّ إلى أن تستلقي على الأرض. وسالمة حامل لكنها غير سعيدة مع عشيقها، الذي يعترض على سلوكها، كما يتطلع إليها الرجال والنساء في الشارع بسبب ملابسها المثيرة الخارجة عن المألوف. هذه هي سمات تحرر المرأة عند نبيل عيوش وأزمتها، وهو يضعها بالتالي في مواجهة مع واقعها الذي تختنق فيه، ولكي تتخلص من حملها تلجأ إلى إيتو التي شاهدناها في القصة الأولى بعد أن أصبحت الآن طاعنة في السن، وتحدثها إيتو عن حبيبها القديم (عبدالله) دون أن نفهم ما الذي حدث له، ثم تنصحها بالذهاب إلى سيدة مغربية يمكنها أن تساعدها على الإجهاض بإعطائها شرابا معينا مع ممارسة بعض الطقوس التي تدخلنا في الفولكلور المغربي وعالم السحر والطب البدائي. تختفي سالمة إلى حين، لنذهب إلى قصة “جو” اليهودي المغربي الذي يدير مطعما حديثا بعد تقاعد والده “جاك”، وجو شاب منفتح مرح يتمتع بالحيوية والجاذبية، يجيد العزف والغناء لزبائنه في المطعم حيث يتجمعون كل ليلة، يرقصون ويحتسون الخمر. وهو صديق لـ”إلياس” مساعده في المطعم، يلتقي جو ذات ليلة بعاهرة شابة تدعى نجمة، وعندما يصحبها إلى منزله تغادر المكان فزعة بعد أن تلمح على جدرانه ما يكشف عن يهوديته.قصة اليهودي جو قد تكون أكثر خيوط الفيلم الخمسة سلاسة وبساطة ووضوحا في السرد، خاصة وأنها تكتسي بخلفية موسيقية بديعة وتصوير ليلي ملفت في شوارع الدار البيضاء ليلا قصة اليهودي قصة اليهودي جو قد تكون أكثر خيوط الفيلم الخمسة سلاسة وبساطة ووضوحا في السرد، خاصة وأنها تكتسي بخلفية موسيقية بديعة وتصوير ليلي ملفت في شوارع الدار البيضاء ليلا، مع حوارات وأقاصيص كثيرة بين جو وإلياس تدور حول رومانسية فيلم “كازابلانكا”، حيث يروي إلياس الكثير مما سمعه من إشاعات حول علاقة عاطفية نشأت بين بطليه أثناء التصوير في المغرب، أي بين همفري بوغارت وإنغريد برغمان. ولكن خلال أحد هذه الحوارات وعلى خلفية ملصق كبير للفيلم الكلاسيكي الشهير، يقول جو لصديقه إن هذا الفيلم لم تصور منه لقطة واحدة في المغرب، أي أنه صنع بالكامل في هوليوود، والمقصود أن المغرب الحقيقي يختلف تماما عن المغرب الرومانسي الذي نراه في الفيلم. ومن بين بنات الطبقة الجديدة الثرية “إيناس” بطلة القصة الرابعة، وهي مراهقة شابة حائرة بين التقاليد الدينية المتزمتة المفروضة وبين بحثها المضطرب عن توجهها الجنسي.. وهي على صلة بخادمة شابة تعمل في منزل الجيران، تبث إليها شكواها ولواعجها، تخبرها هذه الخادمة فرحة بأنها خطبت لشاب في الثانية والثلاثين من عمره بينما لم تتجاوز هي السابعة عشرة، وأنها سعيدة لأنها ستتفرغ للمنزل وإنجاب الأطفال وتتوقف بالتالي عن الخدمة في المنازل. أما الخط الخامس في الفيلم، وهو الأضعف فنتابع فيه كيف يتطلع الشاب “حكيم” لأن يصبح مغنيا على غرار المغني البريطاني فريدي ميركوري، بينما يعارض والده اتجاهه للغناء الغربي. و“غزية” (وهي كلمة عجزت عن العثور على معنى لها في الفيلم) رغم براعة بعض مشاهده من ناحية الإخراج، وتميز الصورة في المجمل، وثراء شريط الصوت بموسيقاه مع تطعيمه بين حين وآخر بأصوات الاحتجاجات الشبابية في شوارع المدينة، يظل عملا سطحيا لا يخترق القشرة الخارجية للواقع المغربي، وتبدو نهايته الملتهبة متوقعة من البداية، دون أن يكون قد نجح في أن يجعل توترات الواقع تتصاعد على نحو درامي مقنع ومترابط. هناك الكثير من الاستعراض السطحي لمظهر سالمة، وإفراط في تصوير رغبتها في التمرد دون أن يكون لتمردها معنى حقيقي. وتبدو حيرة إيناس، وحواراتها مع صديقاتها الفتيات حول الجنس والعذرية، مقحمة على الفيلم؛ فأسرتها الثرية لا تمنعها من الاختلاط أو من ارتداء الملابس العصرية الضيقة المكشوفة وحضور الحفلات، حيث يغيب هنا معنى القمع الديني، ويتبدى تجسيد تناقضها الداخلي في لقطة عابرة عندما نراها وهي تؤدي الصلاة، بينما يأتي صوت أغنية راقصة من جهاز الكمبيوتر في غرفتها. لا شك أن طموح السيناريو أكبر من النتيجة النهائية التي شاهدناها على الشاشة، ونبيل عيوش لم ينجح في خلق إيقاع يليق بموضوع فيلمه، بسبب تشتت الفيلم في اتجاهات عدة، وغياب الإشباع عن معظم القصص، مع غياب علاقة مباشرة مع الأحداث التي تجري في الشارع. وكان يكتفي بالانتقال بين وقت وآخر إلى مشاهد التظاهرات والصدامات بين الشباب والشرطة، إلى أن يصل في النهاية إلى المشهد المتوقع مع بلوغ العنف أقصاه وهجوم حشود الشباب الغاضب على أماكن اللهو التي يغشاها أبناء الطبقة الثرية وتحطيمها وحرقها. ناقد سينمائي مصري
مشاركة :