تعد حرية اقتناء الأسلحة النارية وبيعها في شكل قانوني إحدى أكبر المشكلات التي يواجهها المجتمع الأميركي، إذ اعتادت الأصوات المنادية بالحد منها وحتى منعها، رفع نبرتها كلما وقعت جريمة قتل، استخدم مرتكبوها أسلحة مجازة. ولكن ومع مرور الوقت تخفت هذه الأصوات وينجح اللوبي الداعم لاستمرارها بالمماطلة ومنع أي تشريع ضدها، وعنها كظاهرة أميركية بامتياز أنجز كثير من الوثائقيات السينمائية والتلفزيونية، لكن ما يميز الوثائقي الأميركي «متجر بيع أسلحة»، أنه لا يذهب الى مساحات اشكالية كبيرة ولا يتطرق الى اللوبيات السياسية المتنفذة والمستفيدة من بيعها، بل يثبت كاميرته داخل محل صغير لبيع الأسلحة النارية في مدينة بتيل كريك الصغيرة التابعة لولاية ميشيغن ويترك لها حرية تسجيل عمليات البيع والشراء العادية التي تجري داخله، والتي تشبه الى حد كبير تلك التي تتم في محال بيع المواد الغذائية. المتجر الصغير الذي لا تتعدى مساحته بضعة أمتار فيه مكان مخصص للرماية وغرفة صغيرة لتلقي الزبائن دورات على أنواع الأسلحة ومبادئ استخدامها. المتجر كما يخبرنا الوثائقي الشديد التميُّز هو احد 56 ألف متجر موزعة على مساحة الولايات المتحدة ويدر ربحاً جيداً لأصحابه فتراهم متحمسين وفرحين بحجم الإقبال الشديد عليه. العلاقة بين الزبائن والمحل محصورة ولا منفذ إلى الخارج سوى جهاز التلفزيون الذي ينقل أخبار الجرائم وتغطية الإعلام لها بطريقة تشجع الناس على شراء الأسلحة تحت هاجس الخوف وغريزة حماية النفس والعائلة من الأشرار. زبائن المحل من كل الفئات والأعراق، فالجميع في هذه المدينة يخاف والجميع يريد حماية نفسه بالسلاح. معظم الزبائن، بما يشبه الإجماع، متفقون على صحة قرارهم اقتناء قطعة سلاح ما. ليس هناك موقف أخلاقي واضح رافض ذلك السلوك، فالعنف المنفلت في الخارج والمنتشر في جسد المجتمع لا يترك مجالاً للتفكير بالابتعاد عن وسيلة هي بذاتها تشجع على العنف. الطرف العقلاني خارج المشهد الداخلي للمتجر يمثله رجل شرطة يعلق على ما يدور من نقاشات بين البائع والمشترين ويؤكد أن اقتناء السلاح ليس خطأ بحد ذاته ولكن في طريقة استخدامه ويشكك في دقة قرار مستخدميه وصحة ذهاب الرصاصة المنطلقة الى الهدف الصحيح. لا تنحصر جاذبية الإقبال على المتجر بالكبار فقط بل حتى الصغار تجرى لهم عملية «غسل دماغ» هادئة ومن الأهل بالدرجة الأولى، كما تبرر سيدة أربعينية قررت تعليم أولادها الصغار كيفية استخدام السلاح حرصاً على حياتهم. «حين أخرج الى العمل لا أضمن أن لا يأتي مجرم الى البيت ويعتدي عليهم ولهذا أحرص على تعليمهم مبادىء الدفاع عن النفس بالسلاح». السود يشكون الشرطة من فرط استخدامها العنف ضد أبنائهم ويتهمونها بالعنصرية، وعلى رغم ذلك لا يترددون في شراء الأسلحة. والبيض يخافون عنف السود ويريدون حماية أنفسهم منه. النساء يخفن من الاغتصاب وأصحاب المحال من اللصوص وبالنسبة إليهم جميعاً السلاح وسيلة لضمان الأمن والحرية كما يقول صاحب المتجر: «السلاح في أميركا ضامن قوي للحرية الشخصية ورادع قوي للمجرمين الأشرار، فمن دونه لا يمكن الحد من تهوّرهم». ثمة مبدأ شائع يقول «إذا كنت قد تعرضت مرة للقتل أو كنت ضحية فمن الحماقة أن تكون تحت التهديد نفسه مرتين»، وفق هذا المبدأ يتحرك كثر نحو محال بيع الأسلحة. بهدوء يوصلنا الوثائقي الى حقيقة كون السلاح واستخدامه جزءاً من ثقافة أميركية تبجّل العنف والقوة وهو نتاج التمزق الاجتماعي وانتشار الجريمة ما يعكس أزمات اجتماعية غير مسيطر عليها وأن تشجيع بيع الأسلحة، ليس فقط بالنسبة الى المستفيدين منه، مصدر للربح والثروة وإنما أيضاً هروب من تحمل مسؤولية توفير الظروف الاجتماعية الجيدة المانعة للميل نحو العنف والقوة. ثمة عوامل خارجية من بينها وسائل الإعلام، وظهر أجماع في المحل على أن ما تتناقله من أخبار الجرائم والأعمال «الإرهابية» تشجعهم على شراء الأسلحة، ناهيك بسهولة الحصول عليها. الخط العام للوثائقي ساخر لا يميل الى التراجيديا على رغم تراجيدية المشهد، فحين سأل أحدهم عن سبب سهولة الحصول على السلاح ومن دون تدقيق، تصدى له صاحب المحل وشدد على أنه «يدقق في هوية كل مشتر وبعد التأكد من سلامة حالته النفسية والعقلية يقبل بيعه قطعة السلاح». ولكن، خلال أيام من التصوير لم يسأل صاحب المتجر أحداً من الزبائن عن تفاصيل ماضيه أو عن حالته النفسية، فما كان يهمه بالدرجة الأولى هو ان يعدّ ما حصل عليه خلال النهار وفي انتظار اليوم التالي يغلق محله ويتجه الى بيته بضمير مرتاح ما دام يمارس عملاً مجازاً وقانونياً! يستأنس الوثائقي في اختتام زمنه بآراء بعض المشترين وكلها توصل الى حقيقة؛ أن المجتمع نفسه يفرز الظاهرة ويحيطها بمبررات كافية مثل «نحن ضد حمامات الدم، بما أن المجرمين عندهم سلاح، فالأخيار ينبغي أن يكون عندهم مثله أو لا حرية من دون أمان وغيرها من المبررات والكليشيهات التي يرددها المشترون بخفة ومن دون تفكير بمعانيها، لهذا يشعر الشرطي بالخجل منها ويقول: «أكثر من نصف مليون قطعة سلاح موجودة في الولايات المتحدة لا أحد يعرف كيف يفكر أصحابها ومتى يشهرونها في وجه الآخرين. لقد أصبح السلاح ثقافة وجزءاً من سلوك أمة وتقاعس وقلة ضمير من قادة البلاد. حقيقة أنا اشعر بالخجل من وجود هذا الكم من وسائل القتل بيد مواطنينا».
مشاركة :