انحدر الجمال وعبر المائة عام الماضية بشكل لافت، ما يدفعنا للتساؤل حول تغير مفهوم النظرة الجمالية في الفنون المعاصرة. وعندما نقترب من محاولة فهم القيمة الجمالية للفنون والتي احتفظت بمفهوم ثابت ولم يتغير عبر عصور مضت، فسنجد أن هناك محاولات حثيثة في الأوساط الفنية المعاصرة لتغيير الفكرة النمطية التي لطالما ربطت الفن بالجمال. إن المسألة هنا ليست في رفض تلك المحاولات وإنما هي في معرفة القيمة الجمالية للفنون. يقول أرسطو، إن الفن له فعل خارق من حيث إنه نتاج لشيء لم يوجد أصلًا، وبهذا المعنى يكون الفن بمفهوم أرسطو ممارسة تحدث دائماً خارج حركة السائد والطبيعي. وبهذا المفهوم أيضاً نعرف أن القيمة في الفن هي الإبداع غير الاعتيادي، ولكنه ليس الإبداع المعبر عن كينونة جمالية تحدث أمام الفنان المبدع. وبعيداً عن المفهوم الفلسفي للقيمة المرتبطة بالفنون لا بد لنا من أن لا نغفل عن دور المتلقي و الذي أصبح يجد في الفنون المعاصرة ظلًا للفن بمفهومه وقيمته الجمالية القديمة، ما يعيدنا مرة أخرى للفلسفة القديمة في تقييم الفنون التي قد تلتفي على نحو ما مع المفهوم المعاصر، فهاهو الفيلسوف إيمانويل كنت يشرح القيمة الفنية على أنها شكل من أشكال الحس الأخلاقي لما كان عليه الإنسان من حيث سعيه للمثل العليا، بينما الشاعر جون كيتس يصف الجمال بأنه الحقيقة والحقيقة هي الجمال، وبهذا تُختصر القيمة الجمالية في الفنون على أنها تصوير للواقع ومحاولة لإظهار أعلى القيم الإنسانية. ولكننا على أي حال نقف اليوم أمام هذه المثالية الفائقة في رؤية القيمة الجمالية ونحاول أن نؤمن بها في خضم عنف يجوب العالم ويحصد الأرواح في كل مكان لنسأل السؤال الأكثر قيمة: ماذا فعل الفن للبشر إذا كان هدفه طوال تلك الحقب هو السمو بالنفس البشرية لترى الجمال وتنشر الجمال؟ لعل مالا يحمل معنى في فكرة الجمال هو الحس بأنه يمثل شيئاً من قيمة وأهمية الإنسان نفسه. إن فكرة انتشار العنف في هذا العالم رغم أن الرسالة الفنية حملت دائماً وعبر العصور قيماً جمالية عالية يعبر عنها الفن المعاصر بطريقة مباشرة وواضحة، فالفنان المعاصر حمل دائماً صفة ثورية أو طلائعية حفزته للإبداع الفني إلا أن هذه الصفة، أيضاً، دفعته للتصادم مع الثقافة، فهو باشتغاله خارج المعايير قد تحول إلى متجاوز لكل الحدود التي رسمت تقليدياً بين الفنون، بل إنه يخرج خارج إطار قيم الفن ذاته. فهل أصبح المنتج الفني بمثابة أثر مضاد للثقافة؟ إن مخرجات الفن المعاصر تأسست على مبدأ تجاوز المفاهيم الجمالية والمذهبية والأخلاقية والقانونية. وهنا تكمن خطورتها، وربما أهميتها أيضاً. إضافة إلى أن فضاءات الفن المعاصر لم تعد محصورة في المتحف أو قاعات العرض أو الورشة، فقد انفتح فضاء الفنان على فضاءات جديدة كالمتاجر، والأسواق، والأحياء الشعبية. ولعل في هذا الأسلوب الجديد تكثيف لدور الجمهور في بناء مشهدية الصورة الفنية ما يشير إلى أن القيمة الجمالية للفن المعاصر لم تعد جمالية فقط، ولكنها تميل إلى محاكاة الرأسمالية التي تسيطر على الثقافة العامة في العصر الحديث، وهنا نجد الفنون تبتعد عن هويتها التي حملتها عبر الزمن لنجد أنفسنا أمام فن لا يحمل في آثاره هوية، ونحن نشهد فنوناً رقمية أو المستنسخ من الفن. وقد نجد أنفسنا اليوم أمام سؤال يطرح نفسه بشكل متكرر: من هو المبدع وما هوية إبداعه؟ ومن الإنصاف أيضاً، أن نطرح جدلية أخرى، فهل لا بد للفن من أن يحمل أو يرتبط بقيمة ما؟ لقد انتصر نيتشة للعدم، فهو يرى أن الفنان يسعى إلى فهم الفن خارج الحقيقة وبعيداً عن التقييم المجتمعي للقيم، كما أن نيتشة انتصر أيضاً للحياة وللواقع وللمختلف، والفن بهذا المعنى هو تمرد على كل القيم. إذن ليس من الضرورة أن يكون الفن حاملًا لقيم جمالية كما أنه أيضاً ليس بالضرورة أن يكون معبراً عن قيم عليا، فهو فعل الإبداع الشخصي المتمرد على المألوف.
مشاركة :