افتتح ابنُ تيمية (ت 728هـ/ 1328م) فقهَ «السياسة الشرعية» بكتابٍ مستقل (في ما وصلنا من مؤلفات بعد أطروحات ابن عقيل الحنبلي)، وتلاه ابنُ القيم (ت751هـ/ـ1350م) بكتابه «الطرق الحكمية في السياسةِ الشرعية»، ثم توالت من بعده المؤلفاتُ في هذا الموضوعِ إلى أن وصلت إلى وهبة الزحيلي (ت1436هـ/2015م) ...). وأظهرت ملامح التطور المعرفي «لفقه السياسة الشرعية» أنه بدلاً من أن يسير في مسار النشوء والارتقاء نحو ترشيدِ السلطة وضبط أدائها ومحاسبتها في نور المقاصد العامة للشريعة، هذا النور الذي أضاء طريق الكتابة في السياسة الشرعية بادئ الأمر، سار في مسار «التدهور والانحطاط» باتجاه ترسيخ الاستبداد، حتى انتهى به المطاف ليكون مرجعية عتيدةً- بين مرجعيات أخرى- للأحكام الاستثنائية وقوانين الطوارئ وامتهان كرامة الإنسان وترسيخ حكم الفرد وتوحش السلطة وفشلها في أغلب مجتمعات الأمة. نشأ «فقهُ السياسة الشرعية» وتشكلَ نسقُه المعرفي في سياق أزمات فقهية وحقوقية وكلامية معقدة، ماجت بها القرون الهجرية من الخامس إلى السابع. وعندما كتب ابنُ تيمية كتابه، كانت تلك الأزمات قد بلغت ذروتها. فما كان قائماً حتى القرن الرابع الهجري من وحدة الأمة والدار والسلطة في مركز الخلافة (يسميها رضوان السيد: الوحدات الثلاث)، أضحى شكلاً بلا مضمون، أو يكاد يكون. وكانت مراكزُ القوة المتعددة قد باتت حقيقةً واقعة تحت يد أمراء التغلب. وكانت حرمة دار الإسلام قد انتهكتها هجمات التتار والفرنجة في آن واحد. والألفة بين مكونات الأمة كانت راحت ضحية الفتن المذهبية والسياسية. والفقه (الذي هو علمُ علومِ العمران في نظرنا) كان قد أصابه الجمود والتقليد بدعوى إغلاق باب الاجتهاد. في تلك السياقات المتأزمة، كانت أصولُ العمران الإسلامي المادية والمعنوية تتخلخلُ من جذورها. وهنالك بدأ فقه «السياسة الشرعية» يتبلورُ خلال القرنين السابع والثامن الهجريين، بعد أن كان ابن عقيل (ت: 513هـ) وضع بذوره الأولى وفق تحقيقات رضوان السيد. ونهضَ بعض العلماء المجتهدين من أجل الخروج من تلك الأزمة، ولو بإحداث قطيعة منهجية مع التقليد الفقهي، وبخاصة من حيث قواعد النظر وآليات استنباط الفتاوى وإصدار الأحكام القضائية في شأن الحقوق والمصالح الجماعية والفردية. كان ابن تيمية وابن القيم وقبلهما ابن عقيل في مقدمةِ الذين اقترحوا تغيير تلك المنهجية، وذهبوا إلى وجوب شمولها أدوات جديدة إلى جانب «البينةِ واليمين» مثل: العرف، وقرائن الأحوال، والحجج والبراهين العقلية، والأمارات الظاهرة. وكانت علة هذا التوجه هي: فتح ذرائع تحقيق العدالة، والمحافظة على المصالح العامة والفردية التي لا توجد أدلة جزئية تشهد لها. وحتى يصلَ فقهُ السياسة الشرعية الجديد إلى غايته، كان على علمائِه الأوائل أن يكشفوا عن مواضع القصور التي أدت إلى الجمود والتقليد. واستخدموا في هذه المهمة النقدية أدواتٍ كثيرةً منها: القياس، والتأويل، وسد الذرائع. والأهم هو أنهم انفتحوا على أطروحات «المقاصد العامة للشريعة»، التي تتابع ظهورها منذ وقت مبكر، وتمركزت شيئاً فشيئاً حول مفهوم «المصلحة»، حتى شاع قولهم إن: «مدار أحكام الشريعة على تحصيل المصالح ودرء المفاسد». التركيز الأصولي والمقاصدي على «المصلحة» في تلك السياقاتِ المعرفية والسياسية، كان من شأنه أن يفتح أبواب المشاركة في السلطة والمسؤولية، وأن يسمح بدخول ممثلين لأصحاب المصالح الجماعية المشتركة في مركز صنع القرار، لكي لا تبقى السلطة والمسؤولية محصورةً في يد دائرة ضيقة تضم «الإمام»، أو «ولي الأمر» وقليل من حاشيته. ولكن لم يحدث شيء من هذا، بل زاد انفراد أولي الأمر بالسلطة، وزاد ميل الأصوليين والفقهاء والمقاصديين نحو تعزيز «سلطة ولي الأمر» في تقدير المصالح العامة، وقد أحالوها إليه باعتبار أن هذا هو صميم «السياسة الشرعية»، التي تخول له التصرف في عموم مصالح الأمة. أعاد فقه السياسة الشرعية تعريفَ «السياسة» ابتداءً من ابن القيم الذي استند إلى ابن عقيل في ما ذهب إليه من أنها في جانب منها تعني: «ما وافقَ الشرع»، أي: الالتزام بالأحكام التفصيلية للشريعة، وفي جانب آخر تعني: ما لم ينطقْ به الشرع، أو ما لا يخالف الشرع، أي: التصرف وفق ما تمليه المصلحة في ضوء المقاصد العامة للشريعة. ومن هنا اشتغلت قواعد أصولية ومقاصدية كثيرة مثل: المصلحة المرسلة، والاحتياط، وسد الذرائع وفتحها، والعرف. وأسهمت هذه القواعد في توجيه مسار «السياسة الشرعية» في الممارسة والعمل، والأهم أنها أسهمت، بمرور الزمن، في تركيز السلطة في يد ولي الأمر وانفراده بها. وخلف كل تلك السياقات المعرفيةِ والتاريخية التي تأسس فيها فقهُ السياسة الشرعية، كان «العمران المدني» بمعناه الموسع الذي يشمل شؤون الدنيا والدين حاضراً ومؤثراً في الاجتهاداتِ الفقهية والاختيارات السياسية العملية. وكان قد تأكد أن «الأحكام السلطانية» والسير في طريق بناء دولة القانون التي بدأها الماوردي على استحياء، يحتاج إلى وقت طويل، فضلاً عن أنه لم يلق ترحيباً من أصحاب السلطة، على رغم ما اتسمت به تلك الأحكام من مرونة، واتجاهها إلى شرعنة السلطات الفعلية لأمراء التغلب. ذلك لأن فقه الأحكام السلطانية كان يثير سؤالاً يكرهونه عن مصدر شرعيتهم: التغلب أم الوراثة، وكلاهما لا سند له من أصل الشريعة. ومن هنالك شقَّت الكتابة في فقه «السياسة الشرعية» طريقها. واستندت هذه الكتابة إلى أربع دعائم أصولية ومقاصدية وهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب إقامة العدل، ورعاية المصلحة، وسد ذرائع الفساد والفتن. وتنطوي كل دعامةٍ منها على سلطةٍ تقديرية جبَّارة؛ كونها تتعلقُ بمتغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية لا ثبات لها، ولا تخضع في أغلبها لنصوصٍ قطعية الثبوت والدلالة. كلُّ تلك الدعائم الأربع (السلطات) وضعها فقهاءُ السياسة الشرعية ، من الأحناف، والمالكية، والحنابلة ، في يد «ولي الأمر»، وحملوه مسؤولية أدائها، وفرح هو بها، وانتظروا نجاحه فيها، من دون أن يحددوا طريقة لمساءلته لو أخفق في إنجازها، أو أساءَ استعمالها، ومن دون أن يضعوا عقوبة جزائية في حال ضيَّع «المصالح العامة». ومن هنا تم تفريغُ فقه السياسة الشرعية من مزايا الرؤية المقاصدية التي صاحبت نشأته، وتم سلب قوته الإصلاحية في التمدن الإسلامي بسبب نزوع السلطة نحو الاستبداد والإساءة البالغة للشريعة باسمها! ومن فرط إساءة استعمال «السياسة الشرعية» بات مفهوم «السياسة» ذاته ولا يزال محل شك باعتباره نقيض «الشريعة». وقد ضج الشافعية قديماً من ذلك، وقال سبط ابن الجوزي (ت: 654 هـ/1256م) محتجاً إن «الشريعة هي السياسة الكاملة»، وبلغ الأمر بالمقريزي (ت-845هـ/ 1441م) أن وجه اتهامه لسلاطين المماليك في زمنه بأنهم مثل المغول يطبقون «أحكام السياسة» ولا يطبقون أحكام الشريعة! يتأكد هذا الاستنتاج بتدقيق النظر في مجمل تراث «السياسة الشرعية»، ابتداءً من العمل المُؤسس، وهو كتاب «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» لابن تيمية الذي صرح في مستهل كتابه بأنه بناه «على آية الأمراء في كتابِ الله»،( سورة النساء:58- 59). وقد قسمه إلى بابين: الأول في أداءِ الأمانات، وأهمها: الولايات، والأموال جباية وصرفاً، والثاني في الأحكام، ومركزها: إقامةُ الحدود، والمعاملات. وفي الخاتمة تناول: الشورى ووجوب الولاية، باختصار، ولم يتطرق إلى وجوب إسهام الشورى في تأسيس السلطة أو الولاية، واقتصر فحسب على التذكيرِ بفوائِدها لولي الأمر. وبأيسر نظر في هذا الكتاب وفي أغلب الكتب التي تناسلت منه؛ يتبينُ لماذا هيمنت «إقامة الحدود الشرعية» على فقه السياسة الشرعية؟ ويلوح لنا أن السبب هو: أن إقامةَ تلك الحدود تضفي مظهراً شرعياً على سلطة ولي الأمر، وترسيخ هيبته (الشبيه المعاصر هو: هيبة الدولة في النظم القهرية)، وبخاصة أن هذا التصور يستند «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وهو من أقوى دعائم فقه السياسة الشرعية. ووفق ابن تيمية (في منهاج السنة) فإنَّ ما يصيب الحياة الاجتماعية وعمرانها من فساد «يرجع إلى تعطيل حدود الله»، يقول: «وكثيرٌ مما يوجد من فساد في أمور الناس إنما هو لتعطيل الحدِّ بمال أو جاه... وإذا أقيمت الحدودُ ظهرت طاعةُ الله ونقصت معصية الله، فحصل الرزق والنصر». وتابعه ابن القيم في تفسير خراب العمران بأسباب اجتماعية، وجعل من أهمها: «اختلاط الرجال بالنساء؛ لأنه أُسُّ المفاسد ومنبع الشرور، وكثرة الفواحش والطواعين»، وعليه فإنَّ الحل يكمن في تمكين «ولي الأمر» من إصلاح هذه المفاسد عبر التوسعة عليهِ في إنزال العقوبات التعزيرية من باب «السياسة الشرعية». وبهذا يصبح ولي الأمر محل رهان لإقامة الشريعة، وليس محل نقدٍ أو معارضة من أي نوع، بل تغدو المعارضة وكأنها اعتراض على أحكام الشرع ونقض لها. وعليه استقر في فقه السياسة الشرعية إلى اليوم أن: سلطة ولي الأمر غير دهرية بالمرة، بينما العكس هو الصحيح في الأصل. وأسهم ابن تيمية إسهاماً آخر أراه أشد تأثيراً في ترسيخ الاستبداد من باب «التوسعة على الحكام» وباسم السياسة الشرعية عندما نقل مفهومي «المعصية» و «الصبر» من المجال الأخلاقي والعبادي إلى المجال السياسي وهذا موضوع مقال آخر. وفي محاولة اجتهادية حديثة لفهم تلك المسارات المتعددة لفقه السياسة الشرعية، كتب رضوان السيد دراسة ملفتة بعنوان «التفكير بالدولة: السياسة والسياسة الشرعية في المجال الإسلامي». وقارئ هذه الدراسة ينتهي إلى أربع نتائج جدالية كبيرة. أولها أن هذا الفقه يعبر عن انفصال الحيز الديني الشرعي عن الحيز السياسي الدنيوي منذ القرنين الرابع والخامس الهجريين «لاختلاف الوظيفة والمجال». وثانيها أن هذا الفقه برهن وبخاصة منذ ابن تيمية أن نظام الخلافة ليس من ضرورات إقامة الشريعة. وثالثها، أن الإحيائية الإخوانية والسلفية الحديثة «افترست» مدرسة تقنين الشريعة التي أسسها عبد الرزاق السنهوري غداة إلغاء الخلافة العثمانية. ورابع النتائج وأخطرها هو: أن فقه السياسة الشرعية في مجمله أرسى مفهوم «شرعية الإنجاز»، بمعنى أن العبرة بالكفاءة في أداء المهمات وتحقيق الأهداف. فهل معنى هذا أنه لا حاجة للحديث عن مصدر شرعية السلطة ذاتها: وهل هي دهرية وليدة إرادة الأمة والشورى الحرة أم لا؟ إن التجارب المعاصرة في نظم الحكم المقارنة طبقاً لكارل دويتش وآخرين من علماء السياسة تؤكد أن «شرعية الإنجاز» هي ألذُّ وأطعمُ ما تتغذى به أنظمة الحكم الشمولي التي تقوم على الاستبداد الديني أو العسكري وتمارس القمع الوحشي بدعوى الإنجاز، حتى لو كان هذا الإنجاز وهمياً. ولعل أهم ما قدمه رضوان السيد في هذه الدراسة هو أنه أعاد التأكيد على دعوته القديمة إلى وجوب «إخراج الدين من بطن الدولة»، ليكون في عقل المجتمع وقلبه. وهذه أفضل أطروحة نظرية إصلاحية حتى الآن يمكن أن يُشيَّدَ على أساسِها بناءٌ جديد لفقه السياسة الشرعية.
مشاركة :