السلطة الخامسة.. السلطة الأعلى

  • 10/15/2017
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

لا يصدر قانون إلا إذا أقره مجلس الأمة، وصدق عليه الأمير. المادة (79) من دستور دولة الكويت. هذا يعني بكل وضوح وجلية أن أمير دولة الكويت بالتعاون أو التشارك مع ممثلي الأمة، هم من يصدرون القوانين، ويتحكمون بالتالي في سلوك البلاد والعباد. ولا يجوز، دستورياً، لأي جهة أخرى أن تتولى بأي شكل تسيير حياة الناس عامة، أو التحكم في سلوكهم. ويجوز للحكومة أو وزرائها إصدار قرارات لتفعيل القوانين أو تطبيقها، أو لتسيير الأمور داخل إداراتهم وتنظيم العلاقة بين هذه الإدارات والمراجعين. لكن لا يجوز للوزارء إصدار قرارات تتولى تنظيم أمور الناس أو التدخل في معاملاتهم وتعاملهم، ما لم يكن هناك قانون أقره مجلس الأمة وصدّق عليه الأمير يخول لهم ذلك. وزارات وقرارات لكن مع الأسف، وبفعل غياب الوعي القانوني، وحتى السياسي، فإن الكثير من الوزارات تولت إصدار قرارات لها قوة القوانين تتعلق بتنظيم الحياة العامة. وقد «بدّعت» وزارتا الداخلية والإعلام بهذا الأمر. ومن المؤسف أكثر، أن أحدا من غلاة «المدافعين» عن الدستور- وما أكثرهم- لم يعترض أو يبين مخالفة ذلك لأصول وقواعد الحكم. لأن غالبية هذه القرارات «القانونية» كانت تتعلق إما بالأمن، مثل فرض السيطرة في الشوارع وتفتيش أو حتى اعتقال خلق الله، أو مثل تلك المتعلقة بزعم حماية الآداب والأخلاق، مثل الغناء أو إقامة الحفلات في الفنادق، أو تلك المتعلقة بسلوك الناس، كاللبس والسباحة. وهذا ما يربك أدعياء حماية الدستور ويخيفهم. ولعل أشهر حادثة في هذا المجال هي قيام وزارة الداخلية بلا مبرر ولا إنذار أو تمهيد، إلى اعتقال الناس وقص شَعرهم على الصفر، إن ضبطوا بشعر طويل. حدث هذا في بداية السبعينات وبوجود -في ذلك الوقت- أحد أقوى مجالس الأمة كما يقال، حقيقة لا أتذكر إن كان منعقداً أم لا، وقد تصدينا في جريدة السياسة، وقتها بقيادة المرحوم سليمان الفهد، لهذا التعسف وتم تدخل ولي العهد آنذاك المرحوم الشيخ جابر الأحمد الذي صرح بعدها بأن الناس أحرار في طول وقصر شَعرهم.. فتوقفت وزارة الداخلية. لكن مجلس الأمة القوي لم يستنكر أو يتوقف عند هذه الحادثة، وحتى بافتراض عدم انعقاده وقتها، فإنه كان من المفترض أن يوبخ وزير الداخلية ويلفت نظره إلى ضرورة عدم تكرار ذلك. والحادثة الأقرب كانت قبل سنتين على ما أعتقد، وبطلها مسؤول صغير المنصب والعقل أيضاً، في بلدية الكويت. هذا المسؤول دنَّس مقبرة الشيعة، وأزال النصب والشواهد والعلامات، بحكم أنها مخالفة لعقيدته الوهابية. وأعتقد أنني الوحيد الذي اعترض علناً على ذلك. السلطات استدركت الكارثة وأعادت السماح للشيعة بمواصلة تقاليدهم وأعرافهم الخاصة بالدفن.. لكن لم نسمع شيئاً عن عقاب الموظف، ولا حتى عن تعنيفه علناً، بحيث لا يتكرر الأمر في واقعة أخرى ومكان آخر. حدود السلطة هذا التغاضي عن الخلط بين القوانين والقرارات وعن حدود السلطة التي يملكها الوزراء أو الحكومة، والناتج بالأساس عن الجهل بقواعد وأصول الحكم. بالإضافة إلى المعضلة الأساسية، وهو إصرار بعض وزراء «السيادة» على التصرف بعقلية وسلطة الشيوخ، أدى، هذا، إلى أن يتوسع الأمر ويتدخل من يعتقد أنه يحمل سلطة إلهية –مثل موظفنا الصغير- لأن يصدر ويشرِّع ويحكم وفقاً لأهوائه. ويمهد الطريق لهكذا تعديات على الدستور وقواعد الحكم وأصوله، يمهد لذلك ويقف خلفه، جهل المواطن بالنظام الديموقراطي وهيبة السلطات الماضوية (الشيوخ، رجال الدين)، بالإضافة بالطبع إلى الطامة الكبرى، وهو تهيب وعجز وأيضا صمت القوى الديموقراطية الوطنية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمسائل العقائدية أو الموروثة. وهنا من الضرورة الإشارة إلى أن تعسف وزارة الدخلية المتمثل في اعتقال الناس وقص شَعرهم مرّ، وكان من الممكن أن يمر، دون احتجاج أو اعتراض من قبل المتضررين، لولا أن نشامى «الداخلية» أخطأوا واعتقلوا وحلقوا رأس رجل أعمال أميركي كان زائراً للبلد.. وهو الذي أثار القضية في مقابلة في جريدة السياسة التي تبنت الموضوع. هذا ليس سرداً تاريخياً منفصلاً عن واقعنا وحاضرنا الحالي، بل ارتباط ورد فعل لما حدث ولا يزال يحدث من مخالفات وانتهاكات للسلطات العامة التي لا يزال يمارسها الأفراد بحكم إيمانهم بقوة سلطتهم الدينية أو مكانتهم الاجتماعية. فقبل أيام أصدر أحد «موظفي» بيت الزكاة التابع لوزارة الأوقاف «قانوناً» يُحرم التعامل مع البنوك المحلية أو شركات التأمين. طبعاً الأخ لم يصدر قانونه الخاص.. لكنه أصدر مثل ذلك، أو ربما أقوى وأشد فاعلية، فقد «أفتى» بذلك، داعياً الناس إلى التخلص من أسهمهم وتعاملهم مع البنوك وشركات التأمين «الربوية» حسب زعمه. ما بين «الفتوى» و«التشريع» الفتوى ليست رأياً خاصاً بفرد أو تعبيراً منفرداً عن شعوره، بل هي «توجيه إلهي» ودعوة لعموم المسلمين لأن يتبعوا ما تضمنته.. وهنا تتحول الفتوى إلى قانون وإلى «تشريع» يتحكم في الناس ويوجه سلوكهم، وهذا ما وُجدت القوانين ومؤسسات الحكم ورموزه للاضطلاع به، وليس مدير إدارة في بيت التمويل. السماح بالفتاوى بهذا الشكل يجعل لدينا سلطتين، سلطة دنيوية، وسلطة تشريعية، وهو ما لا وجود له بنص المادة الدستورية أعلاه، ووفقاً للمواد 51 ،52 و 53 من الدستور. الفتاوى والعلاقة بين رجل الدين ومن يحرص على اتباعها والاقتداء بها يجب أن تبقى شخصية، بمعنى أن يرد «المفتي» أو شيخ الدين على من يسأله من أتباعه شخصياً، فهذا حقه وربما واجبه، ولا يملك، وليس من المفروض أن يملك أحد سلطاناً على رأيه وتوجهه الشخصي وعلاقته الخاصة بأتباعه، لكن أن يصدر «تعميماً» أو تشريعاً عاماً، فهذا تدخل في أعمال السلطة التشريعة، بل هو تعدٍ حتى على صلاحيات الأمير في الحكم. الفتوى في القضايا العامة هي تشريع.. الفرق هنا هو أنها تشريعي إلهي كما الزعم، بينما القوانين هي تشريعات إنسية.. أي في النهاية كلها تشريع، وكلها حسب نظام الحكم، من اختصاص الأمير ومجلس الأمة.   عبداللطيف الدعيج

مشاركة :