أثارت مسألتا كردستان العراق وكاتالونيا إسبانيا الكثير من الاهتمام السياسي والإعلامي وكذلك الكثير من التساؤلات على مستوى العالم، وربما لاحظ بعضنا خبراً صغيراً آخر حول تجدد دعاوى انفصالية في إقليم بيافرا في نيجيريا، وانضمام إحدى مناطق الكاميرون لهذا البازار الجديد، ما يستحق تأملاً هادئاً من منظور أكبر من سياقات هذه القضايا وحيثياتها المتباينة إلى منظور استراتيجي تاريخي شامل. فإذا عدنا إلى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومع بدء حركات التحرر الوطني والاستقلال، سنجد أن الفكر السائد آنذاك هو تفضيل احترام الحدود القائمة التي نشأت بإرادة القوى الاستعمارية وتقاسم النفوذ الإمبراطوري الذي كان أساس نشأة غالبية الحدود في دول الجنوب – المستعمرات – حيث لم تكن البشرية قد نسيت الحروب الأوروبية حول الحدود، ولا تلك بين القوى الاستعمارية حول تقاسم النفوذ. ولم يستمر هذا المنطق لبعض الوقت فقط، بل كان أحد الأسس الجوهرية عند إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية التي تحولت لاحقاً إلى الاتحاد الأفريقي، في ما عرف باسم قدسية الحدود المتوارثة من العهود الاستعمارية، والذي حرص عليه الآباء المؤسسون للمنظمة، جمال عبدالناصر ونكروما وسيكوتوري، الذين ما زالت رؤيتهم محل احترام من جانب قادة القارة الأفريقية. وتقريباً لم تتكدر الساحة الدولية لعقود عدة إلا من حالات استثنائية وإن ظلت بالغة الأهمية، من أبرزها انفصال بنغلادش عن باكستان عقب حرب دامية، وبدعم هندي عسكري مباشر للمتمردين البنغال وحظي هذا بتقبل دولي سريع. قبلها وقفت أفريقيا صامدة في ما يتعلق بانفصال بيافرا عن نيجيريا في بدايات الستينات. كما لم يحظ التقسيم التركي لقبرص بقبول دولي ولا تسوية حتى، وهو الحدث الذي تمَّ في مرحلة تالية للحدثين السابقين أو قريباً من استقلال بنغلادش. ولكن لم يكن ممكناً استمرار إريتريا ضمن الحدود الإثيوبية. من العرض السابق يتضح أنه في المجمل حافظت القارة الأفريقية حتى نهاية القرن الماضي على درجة من الاستمرارية والثبات في غالبية حدودها المتبقية. كان يعزز من فكرة حماية الحدود القائمة جوانب مهمة، أولها النجاح الكبير لفكرة الاتحاد الأوروبي ومسيرته إذ برزت ثقافة كونية تعتبره نموذجاً يحتذى به، وانتشرت فكرة أن الاندماج الاقتصادي يتيح لأطرافه قوة اقتصادية ووزناً سياسياً أفضل في النظام الدولي، سواء في مرحلة القطبية الثنائية أو ما بعد انتهائها. من هنا كان انضمام المملكة المتحدة بعد فترة تردد معروفة، والتي كانت في التحليل الأخير إدراكاً منها بتغير موازين القوى الدولية وتراجع قدرتها النسبية على التأثير. كما كانت حالة هرولة دول أوروبا الشرقية للبحث عن مظلة جديدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم يكن باقي أطراف النظام الدولي بعيدين من هذا المناخ، فنشأت تكتلات اقتصادية إقليمية في أميركا الشمالية لتعظيم القوة الاقتصادية لهذه الدول بخاصة الولايات المتحدة. كما نشأت تكتلات مهمة في آسيا وأميركا الجنوبية، والتفتت دول القارة الأفريقية الى محدودية نجاح خطوات اندماجها الاقتصادي بإنشاء تكتلات فرعية، بعضها حقق نجاحاً ملحوظاً بخاصة «السادك» في جنوب القارة بفضل محورية دور جنوب أفريقيا ووزنها الاقتصادي. كما حلَّ تكتلان جديدان في صدارة دول الجنوب، الأول هو «الايبسا» الذي تشكل من جنوب أفريقيا والبرازيل والهند، ثم حل تكتل آخر أكثر أهمية وهو «البريكس» ويضم الدول السابقة بالإضافة إلى روسيا والصين. وهناك مجموعات أخرى ذات طبيعة عالمية كمجموعة العشرين، مجموعة الثماني، وإن كان بمنطق آخر تنسيقي وليس اندماجياً. الخلاصة أن وجهة النظر التي سادت النصف الثاني من القرن العشرين وما زالت على درجة من الحضور، هي أن الاستراتيجية الأمثل للدول هي البحث عن تحالفات واندماجات اقتصادية وأن تكون جزءاً من كيانات أكبر ما يتيح لها منافع جمة ووزناً سياسياً متزايداً. وفي ظل هذا المناخ، كانت المرارة العربية الدائمة من إخفاق محاولات العرب الوحدوية، وأنهم الكتلة الإقليمية التي يتآكل تماسكها، ولم ينجح في خطوات تكتلاتها الإقليمية الفرعية إلا مجلس التعاون الخليجي نسبياً، سواء اقتصادياً أو في ما يتعلق بمستويات التنسيق السياسي، وذلك حتى انفجرت الأزمة القطرية الأخيرة. الأمر الثاني هو فكرة القومية وهي في حركتها تتجه نحو الاندماجية، كما قد توجه الشعوب نحو الانفصال كذلك في أحوال أخرى. فمثلاً كان الاندماج الألماني مقصداً واستراتيجية ثابتة لألمانيا الغربية، بينما نجد القوميين العرب الأشد معارضة في السابق لانفصال جنوب السودان واليوم لكردستان كونها تنتقص من الطموحات الإقليمية الأوسع. والحقيقة أن هناك صعوداً تدريجياً لمنطق مغاير، بدأت إرهاصاته منذ العقد الأخير للقرن الماضي بإعادة رسم بعض الخرائط الأوروبية وبخاصة بالانفصال عن الاتحاد السوفياتي ونشوء دول آسيا الإسلامية، وكذا التشيخ ويوغوسلافيا التي تفتتت إلى دول عدة. ووصلت أزمات المنطقة العربية إلى غاياتها بخاصة بانفصال جنوب السودان، كما لا ننسى أن مغامرة الصومال لتكوين الصومال الكبرى بفصل الاوجادين عن إثيوبيا فشلت ثم دمر الصومال نفسه. وتأتي خطوة انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، لتمثل تراجعاً مهماً عن فلسفة الاندماج والتكتل، وما زالت هذه الخطوة تثير الكثير من ردود الفعل والتساؤلات التي لم تحسم حتى الآن. في هذا السياق التاريخي، يجب النظر إلى مسألتي كردستان وكاتالونيا، وكلتاهما لها عمق يمتد إلى سنوات طويلة. وما نتوقف عنده في هذا الصدد ليس مستقبل هاتين المشكلتين وإنما السياق الدولي الراهن الذي يتم فيه هذا التصعيد، على رغم أنه في الحالتين لا يوجد زخم دولي حقيقي مؤيد لفكرة انفصالهما. فثمة عنصران سلبيان في المناخ الدولي العام والشعبي كذلك، أولهما التراجع النسبي وليس المطلق لفكرة الاندماج وجاذبيتها، وثانيهما وربما هذا الأخطر حالة الانتقالية والتحولات في النظام الدولي الذي شهد منذ سنوات عدة تغييرات مهمة في الخرائط الأوروبية، وما يبدو من حالة سيولة واضحة في هذا النظام الذي يشفى تدريجياً من هيمنة قطب واحد، هو الولايات المتحدة التي أحدثت خلال هيمنتها الكثير من الكوارث بخاصة بغزو العراق ومحاولة التحكم في التطور السياسي للكثير مِن دول المنطقة العربية والعالم. كما تتسم الأدوار الدولية بدرجة فاعلية أقل، ولا يملك أحد أوراق حسم كافية لأي أزمة دولية، وقد تبددت أوهام روسيا بأن مجرد تدخلها الكثيف في سورية سيعني قدرتها المطلقة على إدارة هذا الملف، فهذا لم يحدث على الأقل حتى الآن، وإذا حدث من دون تقسيم سورية فسيستغرق وقتاً طويلاً وترتيبات معقدة. في ظل هذه الأوضاع الدولية حيث يقل اليقين ويزداد عدم التأكد، تؤدي حالة السيولة والفوضى إلى جعل كل الأشياء ممكنة، ومع تراجع بريق فكرة الاندماج نسبياً، فإن أخطار اتساع المراجعات الحدودية والقومية تزيد من مظاهر عدم الاستقرار الدولي. * كاتب مصري
مشاركة :