لم يفاجئني ذوبان النخبة في مصر، كما لم يفاجئني أن نفراً من الرويبضة يزعم أنهم النخبة وأنهم المثقفون دون أن يهتم أحد بخطورة الوصاية الانتهازية على الشعوب من نفر غير متجانس نصَّبوا أنفسهم ودعمهم الحاكم لدرجة أن الصحف تتحدث عن المثقفين وكأنهم جماعة محددة تحدد السلطة عضويتها ولها أوصاف معينة وهي التي تُفتح لها أبواب أجهزة الدولة ويتم الإغداق عليهم، وأمَّموا وزارات الدولة لتكون حكراً عليهم، وصار الولاء للسلطة ونفاقها حتى لو كانت عبئاً على الوطن وخصماً من رصيده هي تأشيرة الانضمام إلى جماعة المثقفين، فصار الشعب والوطن ومقدراته في جانب والسلطة وأجهزتها ومنتفعوها وحواريوها في الجانب الآخر. ولم تفاجئني الصحف وهي تعلن أن المثقفين مصدومون من عِظم جنازة الشيخ عمر عبد الرحمن، وقرنت ذلك بجزع السلطة من الظاهرة نفسها، وأن المثقفين يرون حذف الدين من المقررات الدراسية؛ بل يرى أحدهم أن آيات الجهاد تحض على الإرهاب ويجب حذفها، ومن قبل كان القذافي يرى حذف كل ما يتعلق بالرسول شخصياً لانقضاء عصر النبي، وأن تاريخ الوفاة هو بداية السنة العربية، ولا تزال إسرائيل تلحّ على حذف آيات اليهود التي تنتقدهم، فيكون لدينا قرآن يحتمله هؤلاء المثقفون. وفي هذه المقالة، نحاول تفسير ظاهرة المثقفين الذين يزعمون أنهم ليبراليون وتنويريون وهم يصرون على تغييب العقل والتدليس ويطلّون دون غيرهم ويتصدرون المشاهد حتى رغم انكشافهم. وهناك ظاهرة خطيرة متصلة لم تنل حظها من الدراسة من عدد متنوع من التخصصات للتوصل إلى نتائج عملية رصينة. وهذه الظاهرة هي أن كل من فرَّ من بلده الذي يعاني الاستبداد السياسي إلى دول يحكمها القانون وقواعد الإنسانية ويستقلّ فيها البرلمان والقضاء ويحرص مجتمعها على سلامة الحياة بكل جوانبها فيها، فإن هذا الذي فرَّّ بجلده تتفتح ملكاته ومنهم من احتل أماكن بارزة في حياة المجتمعات المتحضرة. أما الذين بقوا ولم يفروا، فإن مشكلة عقلية تصيبهم، كما أن شخصيتهم تتعقد جوانبها، وربما ينتهي بهم إلى أن يساندوا الاستبداد ول ايعانون ازدواجاً في الشخصية؛ لأن الاستقرار على شخصية واحدة إجباري، وهو التماشي أو القبول بالاستبداد أو الإبداع في دعمه وترويجه، ول ايجدون حرجاً أخلاقياً بعد أن انهارت مرجعياتهم الأصلية في التدليس على غيرهم، وعلى الشعب اليائس. وإذا استمر الفساد والاستبداد مدة طويلة وكتب النظام لنفسه البقاء وكرّس نظامه حافته العليا وهو السكون طلباً للسلامة، وحافته الدنيا القهر الأمني يعاضده القهر القضائي وتناغم الأجهزة الأمنية والقضائية ومحو المسافة الفاصلة بين الشرطة، والنيابة، والقضاء- فإن المدلسين في العالم الثالث، خاصة الذين تربوا علمياً في الغرب وتعلَّموا أدوات النظم القانونية ويرددون مقولات لا تصلح إلا في الأوطان المتحضرة، مثل أن الحكم عنوان الحقيقة، وهم يعلمون أن الحكم هو أداة لقهر المخالفين بقانون الاستبداد، يكونون دائماً الوجه الذي تستخدمه النظم المستبدة استثماراً لقبول الناس لهم. والذين قبلوا البقاء في وطنهم نوعان؛ الأول وهو الأغلبية الساحقة، تتواضع أحلامهم إلى الحاجات البيولوجية، بعد أن تم إفقارهم ودفعهم إلى ما تحت الصفر، كما تم إمراضهم، وتجريف عقولهم بالإعلام ضمن ثلاثية القهر في النظام الاستبدادي، وتلويث وعيهم. هذا القطاع لا يثور لحسابات عقلية؛ لأن عقله قد تم تدميره، وإنما ينفجر استجابةً للحاجات البيولوجية، والحل هو أن يتجاوب الحاكم المستبد مع هذه الحاجات إنفاقاً من موارد الوطن، فيهتف له العامة ويساندون حكمه ويطول بقاؤه ولا يبقى سوى أقدار الله في كونه وعباده، وهذه خارج دائرة حسابات السياسة البشرية. أما الفريق الثاني من الشعب في الدول النامية، فهو الأفراد الذين حصّلوا قدراً من التعليم والوعي وأفلتوا من برامج التسطيح والنفاق في الإعلام والسلوك العام والحكم وأجهزة الدولة جميعاً. هذا الفريق يتم عزله تماماً عن الشعب؛ حتى لا يوقظه على واقعه المرير، فلا يستطيع هذا الفريق أن ينازل المستبد الذي يتسلح بكل شيء، ويستطيع أن يمحق هذا الفريق الذي يعرِّي المستبد بمجرد صمته، كما أن العامة تلومه على أنه يغرد داخل السرب أو يسكت عن الاستبداد، فهو ملوم من الطرفين، المستبد والعامة معاً؛ بل إن تعطيل المستبد قدرات هذا الفريق يكون سبباً في نفور العامة من عجزه.. تلك هي الحالة التي سادت في مصر كنموذج في عهد مبارك، ولذلك فمن الطبيعي أن تكون ثورة يناير انفجاراً شعبياً بلا رأس، ولكن هذه الثورة كانت تطالب بالحاجات البيولوجية التي تفاقمت بعد ذلك، كما كانت أخطر مما يود الحاكم المستبد أن يسمعه وهو الحرية والكرامة؛ لأن هذين المجالين هما ساحة الصراع بين الاستبداد وخصومه. ولكن المشكلة أن العامة لم يتدربوا علي ممارسة الحرية، ولم يتعرفوا على حدود الكرامة، ولكنهم يقنعون بالحدود الدنيا للحرية والكرامة، فالحرية عندهم هي حرية القول بقدر عقولهم ومعرفتهم، وحرية التنقل والاجتماع والاحتجاج على ما يرونه خطأ من الحكم. وأما الكرامة، فتعني أن يتم القبض والاتهام والعقاب دون المساس بكرامة المواطن في شخصه وأسرته أو تنكيل الإعلام به أو تلفيق التهم له أو تعذيبه في محبسه أو اعتبار الحبس أداة للانتقام. عدم السماح بالحرية والكرامة في هذه الحدود يؤدي إلى قتل النفس البشرية، وتمردها ودفعها إلى مقاومة هذا الوضع مما تراه السلطة المستبدة عادة إرهاباً يتعين مواجهته بكل أدوات القتل البدني والمعنوي والإنسانى. وتبقى الآثار العقلية للحرمان من الحرية ونورد عشرة على الأقل.الأثر الأول: ينصبُّ على سلامة العقل وتكوينه؛ مما يؤدي إلى تشويه التكوين العقلي للمواطن. الأثر الثانى: هو أن العقل المطلوب لا يبدع فتجفّ حياة الناس وينتهي الإبداع العلمي والثقافي والفني. الأثر الثالث: هو انعدام قيمة الثقافة وأدواتها، وانحطاط درجة الثقافة في أولويات المجتمع، ويصبح الجهل وقاية من الجنون؛ إذ ما قيمة الوعي والتثقيف والعلم ما دام الإنسان غير قادر على حرية التعبير. الأثر الرابع: ازدواج الشخصية، فالخوف من القهر يدفع إلى العزوف عن الثقافة والتعليم، ما دامت الثقافة تودي بصاحبها، وما دام التعليم ليس الوسيلة لتولي الوظائف العامة أو حتى تقدير المجتمع. وانحطاط الثقافة والتعليم يدخل المجتمع في حلقة مفرغة، فينحطُّ المجتمع ويسوده عدم الثقة والاطمئنان، ويتزايد الاتهام بالعمالة إما للخارج وإما للسلطة، وتتزعزع أركان الوطنية والولاء وحلول النفاق. ويصبح الرأي الذي تكوَّن بالثقافة حبيس الصدور. الأثر الخامس: هو تكوُّن شخصية ملتوية ومعقدة، ولذلك فإن الفحص الطبي الصحيح، وسط حالة الفساد الشاملة في مجتمعات الاستبداد، يظهر أن معظم الشعب يعاني بدرجة أو بأخرى العُقَد الشخصية والنفسية، وهذه هي البيئة الصالحة لتدمير المجتمع في أي أزمة تواجهه. الأثر السادس: اهتزاز الثقة بالمواطَنة والقوانين وانكشاف العلاقة بين المواطن والقهر وشيوع الشعور بالظلم. الأثر السابع: هو اختلاف التركيب الكيماوي للمخ لدى الحاكم والمحكوم. فقد سجلت دراسات سابقة أثر الاستبداد وطوال مدة الحكم على مخ الحاكم، فيكون التفاعل الوحشي بين المدة والقهر وكيمياء المخ مرضاً يصيب الحاكم، لا يَسلم منه حتى الحاكم في الدول الديمقراطية. الأثر الثامن: هو انتاج أجيال على ثقافة منحرفة مشوَّهة ومصطنعة، فتصبح هذه الأجيال عاجزة عن إدارة البلاد، فترث التدهور والانحطاط، خاصة أن مثل هذا المجتمع يصبح طبقياً، يتسيد فيه الفاسد القريب من الحاكم، وتنمحي منه المصلحة العليا ويصبح الحديث عن "منطق الرجل العادي" معياراً غير مأمون. الأثر التاسع: يتعلق بالكوارث المترتبة على فساد العقل وفساد غذائه، فيحل الانقياد للأفكار السياسية والدينية المنحرفة محل العقل والموضوعية والحكمة، كما يتفتت المجتمع، وتعصف به حوادث الطرق، والحوادث الجنائية وإراقة الدماء، ونزع القداسة عن الحياة ومظاهرها، ويضيع الفارق بين الصواب والخطأ. الأثر العاشر: إنشاء أجيال من المستبدين على كل المستويات وتمدُّد الظلم إلىي الفئات الأضعف، خاصة المرأة والفقير والأطفال وذوي الحاجات والعاهات. إن تعطيل الحاكم المستبد للعقل واستخفافه بالعلماء وتهافت العلماء لنفاقه يقطع الطريق على معارضته وتفنيد مساوئه. ولكن إفساد العقل من ناحية أخرى يعطل علاقة الإنسان بالخالق؛ مما يؤدي إلى الأساطير وتوظيف الدين أو إساءة فهمه، وتعطيل وظيفة الإنسان في الأرض. وهكذا يكون الاستبداد معطِّلاً لشرائع الله، ويكون المستبد هو إبليس الذي طلب أن يكون من المُنْظَرين. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :