الحوار مع الآخر مصطلح ثقافي وفلسفي وسياسي أيضا، وهو ينطوي على مفهومين : الحوار، والآخر. ولكي نعرف معنى الحوار مع الآخر ينبغي فهم المراد من شقي هذا المصطلح المركب. إن أفضل طريقة لتناول هاتين الكلمتين «الحوار والآخر» هو التحليل اللغوي. فلنبدأ بكلمة «الآخر» مع الاستعانة بمعاجم اللسان العربي المعروفة. بما أنه من الصعب سرد كل دلالات الكلمة فإني سأقتصر على المعنى الجوهري لها. المادة « أ خ ر » ومشتقاتها مثل: آخر بكسر الخاء أو بفتحها، أو مثل تأخير، مؤخرة، متأخر، الآخرة في مقابل الدنيا الفانية.. إلخ .. القيمة الدلالية التي تفترضها كل المعاني المحتملة لهذه الكلمة هي «وجود مسافة». هناك مسافة زمنية أو مساحة مكانية أو بعد معنوي تنطوي عليه كل كلمة من مشتقات « آخر ». ففي اللسان : ( « الآخِر » سواء بكسر الخاء والذي يعني ما ليس أول أو ما ليس متقدما أو ما يظل باقيا في الوقت الذي ينتهي فيه ما قبله.. أو كان بفتح الخاء « الآخر » الذي يراد منه ما ليس هو الأنا المتكلم أو هو في بعض الدلالات « البديل» عما هو أصيل). وفي الآية «فآخران يقومانِ مقامهما» .. أي بديلان عن من كان يفترض في الأصل أن يقوما بالمهمة المناطة بهما.. فإن المعنى الأصلي للجذر اللغوي لـ « آخر » يفترض وجود « مسافة » زمنية كالتقدم والتأخر أو « مساحة » كأول الصفوف وآخره. التحليل اللغوي السالف يثبت المعنى الأصيل وهو وجود «شقة» بين الأنا و الآخر. والشقة تعني «الفرقة» أو «الخلاف» وليس الاختلاف.. ولن يتم تجسير هذه الشقة أو الهوة إلا بالحوار. والحوار هنا هو الاتصال بعد انقطاع أو بعد جهل. أو هو في أصله اللساني «الرجوع» كما تقرر المعاجم: الحور: الرجوع عن الشيء وإلى الشيء... يقول الجوهري: حار يحور حورا وحؤورا رجع. وفي القاموس المحيط: الحور هو الرجوع. وهو بعيد الحور أي عاقل. فالعقل هنا مرتبط بالرجوع إلى الذات وتأمل أفعالها وهو كذلك الرجوع إلى الآخر الذي لا تستقيم لعاقل الحياة بدونه. وفي القاموس المحيط أيضا فإن كلمة : تحاوروا تعني : تراجعوا الكلام بينهم. والمراجعة هنا تعني إعادة النظر والتحقق وإرادة الحق.. يبدو في الختام أن التحليل اللغوي يعفينا من إجراء أي تحليل آخر. فالمغزى واضح جدا. «الآخر» هو البعيد أو المختلف أو الذي ليس «أنا» .. والمسافة بيني وبينه لا يمكن أن تجسر إلا بالرجوع: أن يرجع هو إلي وأن أرجع أنا إليه. والرجوع هنا لا يمكن أن يعني الاستسلام والخضوع والتنازل بأي شكل.. بل الالتقاء. أو لنقل: ملء «المسافة» التي بيني وبين الآخر. بماذا يمكن ملء هذه المسافة؟ بشيء واحد: بالحوار. وبعبارة أدق: بما يحفظ لـ «الأنا» ولـ «الآخر» تميزهما واختلافهما. فتجسير المسافة لا يعني إلغاؤها، فالمسافة لا بد أن تظل قائمة لكي يكون للحوار أو الرجوع معنى. إن إلغاء المسافة لا يعني سوى شيئا واحدا وهو إلغاء «آخرية» الآخر والتي بدونها يكون الحوار مزيفا كما أوضحت في مقال سابق لي بعنوان: الحوار الايديولوجي والحوار الديمقراطي.
مشاركة :