راشد بن سعيد في ذكرى رحيله

  • 10/17/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

في مثل هذا الشهر أكتوبر من العام 1990، أغمض راشد بن سعيد بن مكتوم بن حشر بن مكتوم عينيه ورحل عن دنيانا وهو لم يتعد الثمانين من عمره؛ إذ ولد، رحمه الله، عام 1911، ورحل بعد حياة حافلة وثرية لمنجزاتٍ قليلاً ما يجد المؤرخ والمتابع مثيلاً لها في المنطقة العربية، لزعماء وقادة قُدّر لهم أن يمسكوا زمام الأمور في بلدانهم وممالكهم.. وحتى خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته 1980-1990، والتي كان في معظم أوقاتها طريح الفراش؛ بسبب أمراض الشيخوخة التي داهمته بشكل مفاجئ، لكن البيئة الإدارية المتينة التي أوجدها الشيخ راشد بن سعيد كانت سائدة ومستمرة، ومشى على نهجها أولاده بانضباط وانتظام. وبرز الشاب المليء بالحيوية، راشد بن سعيد بروزاً لفت إليه الأنظار وهو يقف متحدياً أولئك الذين حاولوا مناوأة شرعية أبيه الشيخ سعيد بن مكتوم، الذي تولى الحكم في دبي عام 1912، والشيخ راشد في المهد ولم يبلغ من العُمر عاماً ونيف عام.. وكان الشيخ راشد آنذاك، إبان بروزه من العام الخامس والثلاثين بعد التسعمائة والألف، في الرابعة والعشرين من عمره، شاباً وسيماً طويل القامة ذا طلعة بهية، وتشع من عينيه الهيبة والذكاء، يتمنطق بخنجره الفضي، ويلف في أغلب الأوقات رأسه بغترة بيضاء، التسفيرة العُمانية، في أشهر الصيف، وبالشال الكشميري «ترمه» في الشتاء، ولم يضع الشيخ راشد رحمه الله، العقال الخليجي على رأسه كمعظم أهالي الإمارات إلا في بداية الخمسينات من القرن المنصرم؛ حيث بدأت التسفيرة تقل مشاهدتها ويكثر بين الناس لبس العقال شيئاً فشيئاً، إلى أن أعاد الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله للتسفيرة العربية العُمانية رونقها بعد ذلك في أشكال عفوية أو «كاجولية».وقد ألقى والده الشيخ سعيد بن مكتوم، إلى راشد زمام الإدارة، فأدارها بحنكة ودراية وبعد نظرٍ خلقت الإعجاب، وأصبح راشد بن سعيد بعد ذلك الحين ومنذ سبتمبر 1939، مرجعاً رئيسياً لكل مقيم ووافد وذي علاقة بدبي في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت الحرب العالمية الثانية موقدة النيران تكوي العالم من أقصاه إلى أقصاه، وكانت مناطق الخليج والجزيرة العربية بأكملها مناطق غير مريحة تتنازعها الصدامات القبلية ويعمها ضنك العيش وسوء الأحوال، ومع ذلك ظلت دبي تحت قيادة هذا الشاب الواعي، راشد بن سعيد، واحة أمانٍ وذات نشاط تجاري ملحوظ وميناء بحري نشط طوال سنوات الحرب العالمية الثانية التي استغرقت ست سنوات. وما ان وضعت الحرب العالمية أوزارها في العام 1945، وبالرغم من بروز بعض المشاكل القبلية التي وضعت عائقاً أمام خطوات الإعمار في دبي وفي كل الإمارات التي تشكل حالياً دولة الإمارات العربية المتحدة وحتى العام 1950 أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الشيخ راشد بن سعيد نشطاً ومتحمساً لوضع دبي على خريطة العالمية وإبرازها كسوق وميناء إقليمي تخلف الموانئ الخليجية التاريخية كهرمز وسيراف ولنجة وغيرها من تلك التي كان لها في ماضي الزمان القدح المعلّى في التجارة العالمية بين بحار الخليج وعُمان وبين العالم.. وكان الشيخ راشد يسمع ويتعلم من التجار وأحفاد النواخذة الكبار الذين كان يجالسهم، عما كان لهذه الموانئ الخليجية من رونق في الماضي، وأسباب اضمحلالها التي كان معظمها بسبب النزاعات الإقليمية والصدامات القبلية وهيمنة التشدد الديني والفئوي وفساد الإدارة وسوء المعاملة التي مهدت للتدخلات الأجنبية الطامعة. وكان الشيخ راشد رحمه الله، يعلم بكل ثقة أن صيانة ما حققته دبي من سمعة مركزية للتجارة منذ عهد جده الشيخ مكتوم بن حشر بن مكتوم، شيء في غاية الأهمية والضرورة لاستمرار النمو في بلده والحفاظ على مكتسباته.. وأول شيء خطر بباله وتأكد منه كدعامة أساسية للنمو التجاري، هو وجود مصرف أو بنك ذي احتكاك بالتجارة الإقليمية والعالمية، وكان البنك البريطاني لإيران والشرق الأوسط، البنك (HSBC)، حالياً، أحد المصارف الذي أطل برأسه في المناطق الخليجية بعد إيران «في الكويت والبحرين»، فانتدب الشيخ راشد تاجرين من تجار دبي للاتصال بالبنك والتفاوض معه لفتح فرع في دبي، والتاجران هما، ناصر بن عبداللطيف السركال وعبدالله مراد البستكي، الذي كان مديراً لتجارة مصطفى عبداللطيف الواسعة، وكانت لها فروع كثيرة في الخليج ومنها دبي، وانتقلت إليها هذه المؤسسة التجارية من لنجة عام 1903، في عهد الشيخ مكتوم بن حشر بن مكتوم.وتكللت المفاوضات بالنجاح؛ حيث كان البنك نفسه يعد العدة للدخول في مفاوضات كهذه، واستأجر البنك مبنى تجارياً تابعاً للشيخ حمد الفطيم، في رأس العبرة «سوق ديرة»، وافتتح الفرع وبدأ البنك المسمى البنك البريطاني لإيران والشرق الأوسط ممارسة أعماله في يناير 1946، ولهذا المبنى صورة نشرها كودري، ضمن صوره التي نشرها عن دبي والإمارات في عام 1950-1951، وأرجو أن تتاح لي فرصة لنشر الاتفاقية المبرمة بين حكومة دبي وصورة البنك البريطاني القديم هذا في الأيام الآتية.ولاشك، أن وجود بنك يتعامل معه التجار في دبي كان عاملاً هاماً في ترويج تجارة الصادر والوارد، ووجود البنك كأول مصرف في المنطقة «الإمارات العربية المتحدة»، يعود الفضل فيه لفكر راشد بن سعيد وسعة أفقه في تلك الأيام التي لم يكن من السهل أن يجد الإنسان مسؤولين كباراً في هذه المنطقة يخططون ويمهدون لمثل هذه المشروعات الكبيرة وذات النفع العام..ثم جاء التفكير في حفر الخور من قِبل الشيخ راشد بن سعيد رحمه الله، والخور كما هو معروف كان يمثل الشريان الذي يغذي الحياة في دبي ويجعلها متميزة وقليلة المثيل في المنطقة، وعلى جانبي الخور كان يقع الميناء وتقع الجمارك، هذا المشروع الحيوي الهام الذي قفز بدبي وتجارتها وموانئها إلى القرن الحادي والعشرين، والتي اعتبرها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رعاه الله، نقطة تحول رئيسية حدثت في تاريخ دبي العمراني، وكان الشيخ راشد رحمه الله مُصراً وبعزيمة متناهية وتخطيط فيه الكثير من الحنكة والتجربة في بداية الخمسينات من القرن الماضي، أن ينجز مشروع الخور وينقذ سمعة ميناء دبي من التراجع بسبب تراكم الرمال في مداخل الخور وفي قيعانه مما كان يعيق دخول السفن ذات الحمولات الكبيرة في الخور.وكل ذلك بالرغم من قلة الإمكانيات والموارد المالية المساعدة، ولكن همة الشيخ راشد بن سعيد العالية وسمعته وثقة الناس بوفاء هذا الرجل بتعهداته والتزاماته سهلت التمويل وجعلته ميسراً للقيام بهذا المشروع ذي الأهمية الخاصة، ولقيام المشروع وإعداده للتنفيذ مبحث آخر تحدثنا عنه ونرجو أن تتاح فرصة للحديث عنه في المستقبل..وكما يلاحظ القارئ لهذا المقال فإن حديثنا هنا بمناسبة مرور 27 عاماً على رحيل هذا القائد الكبير ورجل الدولة العالي المقام الشيخ راشد بن سعيد بن مكتوم، يقتصر على جانب من جوانب التاريخ التجاري والاقتصادي لدبي.. ولم نتطرق للجوانب المتعددة الأخرى ومنها الجانب السياسي الذي يعتبر الشيخ راشد فيه في مكانة عالية بين الحكام والقادة الذين شهدهم المجتمع العربي والإسلامي في تاريخه الطويل..

مشاركة :