الجميع في الملعب وأمام الشاشات يحتفل باقتراب وصول منتخبنا الوطني لكأس العالم بعد غياب دام لثلاثة عقود، فلم يتبقّ سوى دقائق معدودة وتنتهي المباراة، ولكن الفريق المنافس كان له رأي آخر ليسدد مهاجمه كرة مباغتة في الدقيقة 87 لتستقر بالشباك. رصاصة أطلقها من قدمه، ولكنها لم تصب شِباك مرمى المُنتخب فحسب، بل أظنها أصابت قلوبنا جميعاً؛ ليتحول المشهد فجأة من فرحة عارمة لعزاء كبير. كنت على يقين تام بأن الأمر لن يمر بهذه السهولة التي كنا نظنها قبل بداية المباراة، وأنه لا بد من دراما وبكاء ونحيب، ولا بأس من بعض أعراض الجلطات والذبحات والسكتات الدماغية، فلم أعد أثق في منتخبنا القومي بعد تاريخ ممتد من الإخفاقات في الوصول لكأس العالم، كان يراودني بعض الشك المبرر بأنه سيحدث شيء سيفسد علينا الفرحة المرجوة كالعادة؛ ليتلاشى حلم الوصول لكأس العالم في اللحظات الأخيرة، كما حدث كل مرة. شريط الإخفاقات يمر أمام عيني في تلك اللحظات الحساسة بعد هدف التعادل للفريق الضيف، فلم أعُد أرى ما يدور في الملعب بعد ذلك الهدف، فقط تذكرت كابتن جمال عبدالحميد، مجدي طلبة، طارق السعيد، جورج وايا، الطوبة الشهيرة.. كل هذا يمر أمام عيني، كل هؤلاء وأكثر كانوا أسباباً في إهدار الفرصة الأخيرة لوصولنا لكأس العالم وإضاعة الحلم في آخر لحظة، حاولت كثيراً أن أتناسى وأسامحهم، ولكن قلبي قد أبى أن يفعلها، فلن ينسى أبداً أي شخص جعله يبات ليلته باكياً متحسراً على ضياع حلمه، فهم لا يدرون ما مقدار الذل الذي لاقيناه جميعاً من كابتن مجدي عبد الغني منذ عام ١٩٩٠ وحتى الآن، 28 عاماً من الانكسارات الكروية، بدأت أهيئ نفسي وأستعد أن أضيف أربعة أعوام أخرى لهذا الرقم، فقط أُفكر في الاسم الجديد الذي سيدخل السجلات؛ لأستعد أن أفتح القوس لأضع اسمه بجوار كل هؤلاء السالف ذكرهم في "لوحة سنوات الكرات الضائعة". الجميع منتحب لما آل إليه حال المنتخب، لا أخفيكم سراً فقد فقدت الأمل تماماً، الكاميرات ترصد عيوناً دامعة في المدرجات ليصبح الأمر أكثر مرارة، ما أقسى تلك اللحظات على أرواحنا المسكينة، وما أقسى أن ترى كل تلك العيون الدامعة المقهورة! ما ذنب ذلك الشعب المسكين الذي لاقى من الأهوال والمعاناة والانكسارات على الصعيد العام طيلة تلك الأعوام ما هو ليس بالقليل، فحاول الهروب من واقعه الأليم بمشاهدة مباراة لكرة القدم لعلها تكون مصدراً للسعادة ولو مؤقتاً، لتنسيه ما تجرع من أسى طيلة اليوم ليجد فريقه القومي يسقيه من نفس الكأس، يحاول الهرب من معاناة ليجد هولاً عظيماً ينتظره داخل ذلك المستطيل الأخضر وبين أقدام هؤلاء اللاعبين، وكأن كُتب عليه البؤس في كل مكان في هذا الوطن. في تلك اللحظات العصيبة أيضاً هناك لاعب سقط باكياً على الأرض يركل الأرض كالطفل الصغير حسرةً على ذلك الهدف المباغت، ولكنه سرعان ما تحولت هيئته بعد عدة ثوانٍ؛ ليتحول ذلك الطفل الباكي فجأة لأسد جريح يزأر يأبى أن يقع فريسة في يد صائده، زئير مسموع في جميع جنبات الاستاد، يصرخ وكأن لسان حاله يقول: لا..لا.. ليست هذه النهاية. أظنه الوحيد وسط تلك الجموع اليائسة على يقين أن هناك نهاية أخرى سعيدة، أظنه الوحيد دون المائة مليون مصري على يقين تام أن هناك فرحة قادمة بعد دقائق معدودة. الوقت يمر كالبرق، الحَكَم يحتسب خمس دقائق وقتاً بدل ضائع، هل ستحدث المعجزة في تلك الدقائق؟ الإحباط يتسرب للجميع، الصمت والبكاء هما لغة الجميع الآن، الجميع وكأن على رؤوسهم الطَّيْر بفعل ذلك الهدف المباغت. أشعر بـ"تنميلة" في قدمي اليسرى! هل هي بوادر "جلطة" من هول الموقف! أكاد أسمع دقات قلبي المتسارعة. فجأة صفارة الحَكَم تشق حاجز السكون معلنة عن "ضربة جزاء" لفريقنا القومي، الأمل يتجدد مرة أخرى. وها هو ذلك الأسد الجريح يستعد لها في وقت حرج فلم يتبقّ سوى دقيقة وتنتهي المباراة، كم أشفق عليه كثيراً من ذلك الضغط النفسي، فجميع العيون متعلقة بما ستفعله قدمه بعد لحظات، إما أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه وإما أن يخرج بمصر من الباب الضيق كعادة كل تصفيات لأضع اسمه في قائمة المغضوب عليهم في "لوحة سنوات الكرات الضائعة"، ترى ماذا سيحدث؟! ها هو ينطلق كالسهم وكله ثقة ليطلق رصاصة من قدمه اليسرى لتستقر في شباك الخصم، أظنها هذه المرة رصاصة الرحمة التي أعادت إحياء كل هذه القلوب الجريحة مرة أخرى، رصاصة أعادت لنا الأمل والبسمة من جديد، هدف ملحمي أظنه أهم هدف للفريق القومي في القرن الحادي والعشرين. ها وقد هبطت عدالة السماء أخيراً على استاد برج العرب بعد طول انتظار. هدف ابتلع كل الهموم والأحزان وكل ما أفسده الساسة طيلة كل تلك الأعوام، لم يكذب من وصفها بأنها الساحرة المستديرة لما لها من عامل السحر في ابتلاع الأحزان ولو بشكل مؤقت، فرحة لطالما تاقت أنفسنا لها كثيراً، ليبات الشعب ليلته منتشياً فرحاً محتفلاً في جميع الشوارع والميادين، مشهد أعاد لذاكرتي آخر فرحة طلّت في شوارع ذلك الوطن، أعاد لذاكرتي فرحة ليلة من ليالي ثورة يناير والتي هبطت عدالة السماء يوماً على ميدان التحرير، أظنها آخر فرحة حقيقية هبطت على ذلك الوطن قبل أن يُفسدها الساسة مرة أخرى. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :