كان الحاكم الروماني الطاغية إذا أراد أن يُشغل شعبه ورعيته عن ظلمه وطغيانه وعسفه، جاء بهم إلى المدرجات الرومانية كالكوليسيوم وغيرها والتي أنشأها لهدف يخدمه، وجاء بعدها بالعبيد كـ"سبارتاكوس" و"كريكسوس" وغيرهما، وقال لهم: أيها العبيد، تصارعوا لكي يتسلى ويتمتع الناس بالفرجة عليكم. دار الزمان دورته، ولكن استُبدل الحاكم الروماني بطاغية بدماء عربية، وأما الفُرجة فأصبحت مغنياً أو كرة قدم أو شيخاً من شيوخ السلاطين. وأما العبيد، فتحرر قسمٌ منهم، رفضوا الضيم والذل وقرروا تكسير نير العبودية، وأما القسم الآخر فانتقل إلى المدرجات يتابع ما أحضره الحاكم له من فرجة لإشغاله. وهكذا على مر العصور، تتعدد وسائل إلهاء وإشغال الشعوب عن همومها الأساسية، فلصرف أنظار الشعوب عن مشاكلها تبدأ أجهزة الطاغية بتوزيع المهام المتعددة لإشغال الناس؛ فتارة تنابُذ وشتائم بين فنان وفنان آخر أو فضيحة لإحدى الممثلات -وما أكثر فضائحهن!- كي ينشغل الرأي العام بهذه السخافات؛ وتارة شيخُ سلطان لا همَّ له إلا تخدير الناس بأحاديث وآيات يتلاعب بها لمصلحة الحاكم ويُنزلها في غير موضعها فيمنع الناس من المطالبة بحقوقهم، بدعوى المصالح والمفاسد وسد الذرائع والفتن النائمة التي لا نحتاج أن يوقظها أحد، وكل هذا لإشغال الناس عن الكوارث التي يرتكبها الحاكم الطاغية. وتارة أخرى عبر مباراة كرة قدم لا تقدم ولا تأخر، وسأحصر حديثي في هذا المقال عن كرة القدم والتي تسمى الساحرة المستديرة، وهناك ملاحظة صغيرة لا بد من إيضاحها قبل إكمال المقال؛ وهي أنني أحب كرة القدم وأتابعها؛ لكي لا يقال إنه لا يتابع كرة القدم ولهذا يوجه هذه الانتقادات. دع الشعوب تفرح وتنسى آلامها، دعنا من التنكيد على الناس وسرقة فرحتها! هذه أبسط العبارات التي يُردُّ بها على من يقول للناس: سواء تأهل هذا المنتخب أو ذاك أو لم يتأهل، فهذا شيء لا أهمية له أبداً، فهناك الكثير من الأولويات التي على شعوبنا أن تهتم بها قبل كرة القدم. ثم لو فرضنا أن إنساناً جاء إلى إنسان آخر يتعاطى المخدرات وقال له: كفى يا أخي تعاطياً لهذا المخدر؛ فبواسطته أنت ترمي بنفسك إلى التهلكة، وحتى لو فرحت مؤقتاً بهذا المخدر فإن عاقبتك ستكون وخيمة، فهل يكون هذا الإنسان الناصح لأخيه سارقاً لفرحة المتعاطي؟! ثم من يسرق فرحة الشعوب ويستبيح دماءها ويستعبدها ويبيع بلادها بثمن بخس دراهم معدودة للدول الكبرى كي تحفظ له حكمه؟مَن ملأ السجون بالمظلومين الذين تبكي عليهم عوائلهم ليل نهار وتنتظرهم بفارغ الصبر؟ مَن حرق قلوب الأمهات الثكلى بعد قتل أبنائهم وسحلهم لأنهم طالبوا بحقوقهم؟ مَن فرَّق بين العوائل وشرد الآلاف في أصقاع الأرض؟ أليس هم الحكام الطغاة؟ أليس هؤلاء من سرقوا ويسرقون كل يوم أي فرحة لشعوبهم؟ أليس في عهد هؤلاء المتجبرين يكاد لا يمر يوم تجف فيه دموع الشعوب من القهر والظلم؟ على كل حال، من يسرق فرحة الشعوب معروف تماماً، والشمس لا تحتاج لدليل في واضحة النهار. يقول المفكر المعروف نعوم تشومسكي في وثيقة كتبها بعنوان "أسلحة صامتة لحروب هادئة": "حافِظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيداً عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية وألهوه بمسائل تافهة لا أهمية لها. أبقُوا الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى". وللأسف، أصبحت كرة القدم إحدى هذه الوسائل لإشغال الشعوب، لا؛ بل الأسوأ من ذلك تبيّض صفحة الحاكم الطاغية وإجزال الثناء عليه؛ لأن المقربين من هذا الحاكم من منافقين وإعلاميين وكتاب، اعتادوا نسب أي إنجازٍ -باعتبارهم- إلى الحاكم، فإن تأهَّل المنتخب إلى كأس العالم، فلا شك في أن هذا بفضل الحاكم، وإن بُنيت الملاعب والمنشآت الرياضية فهذا أيضاً بفضل الحاكم، وقِس على هذا المنوال. وأعود وأقول: نعم، للأسف تحولت كرة القدم ومشاهدتها من رياضة جميلة إلى وسيلة تخدير بيد الحكام، وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تستعمل كرة القدم لإلهاء الناس؟ الإشارات نفسها تتكرر من بلد إلى آخر مع اختلافات بسيطة، حيث يحتشد الجمهور في الملاعب والصالات وأمام شاشات العرض الكبيرة، ويبدأ الضخ الإعلامي والقصف الصحفي قبل أيام من المباراة الحاسمة التي سيخوضها المنتخب الوطني، والتي سيتحدد على أثرها مصير شعب كامل، وفي حال التأهل والفوز بالمباراة فسيدخل المنتخب الوطني التاريخ من أوسع أبوابه بهذا الإنجاز العظيم، وهو التأهل إلى كأس العالم، فيصدق الجمهور هذا الكلام؛ مما يؤدي إلى هيجان عواطفه، التي في كثيرٍ من الأحيان تكون غير محمودة العواقب، ومباراة مصر والجزائر في عام 2009 ليست عنّا ببعيدة، وكلنا شاهد على ما سببته هذه المباراة من آلام وسِباب وشتائم بين الشعبين، ذكرتنا بحروب داحس والغبراء. هناك أمرٌ آخر يلاحَظ كثيراً استخدامه في هذه المباريات؛ وهو اللعب على وتر إحياء أشياء تاريخية قد تم دفنها من قرون، وأضرب مثالاً بما يردده البعض من لفظة أقرب إلى الذم منها للمدح، وهي "أحفاد الفراعنة" و"الفراعين" وغيرها من هذه الألفاظ، وما رأينا أحداً يفتخر بأنه من أحفاد الظلمة والطغاة؟ وهل يصح -مثلاً- أن يُقال في أحد بلاد الجزيرة العربية -كالسعودية أو الكويت أو قطر أو غيرها- عن أحد منتخباتها إنهم أحفاد أبي لهب وأبي جهل وأمية بن خلف؟! وهل يقول الإيطاليون عن منتخبهم إنهم أحفاد نيرون وكاليغولا وغيرهما من طغاة روما؟! فكيف يردِّد بعضهم ما يقوله إعلام الطغاة دون دراية بما تعنيه هذه الكلمات؟ في النهاية، بالفعل صدق من قال عن كرة القدم إنها ليست مجرد لعبة، فقد تحولت -وخاصة في العقدين الأخيرين- إلى وسيلة لإلهاء وتخدير الشعوب وشغلها عن أولوياتها، وأصبحت أفيوناً خاصاً يقوم الطغاة بتوزيعه كلما ضاقت عليهم أمور إدارة البلاد أو اشتموا رائحة تحرُّك شعبي، هو قادم لا محالة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :