إذا عدنا إلى المعجم المسرحي لميشيل كورفان، سنجد أن تسمية مسرح العبث Théâtre de l’absurde، قد أطلقت على جيل من الكتاب المسرحيين ميز النصف الثاني من القرن العشرين في مقدمتهم بيكيت، ويونيسكو، وأداموف، وجينيه، وبنتر، باعتبار أن مسرحياتهم تتميز بفرادتها.. هؤلاء الكتاب برهنوا على أنهم لا يشكلون –حتى وإن وجدت نقاط تلاق بينهم– مدرسة أو تياراً منسجماً في الكتابة المسرحية. يؤكد المخرج المسرحي Rojerblin على (أن النقاد هم من أوجدوا توافقاً بين هؤلاء الكتاب الذين كانوا منعزلين عن بعضهم البعض. وأن هذا التقارب لا يعني إلا تقارباً مع المرحلة التي عاصروها، وعبروا عنها في كتاباتهم). فهم بقدر ما عبروا عن روح الفترة التي عاصروها، بقدر ما جاءت كتاباتهم متشابهة بعض الشيء فيما بينها، إذ عرفت أوروبا خلال تلك الفترة أزمة فكرية بسبب الحربين الأولى والثانية، فبدا مجتمع تلك الفترة فاقداً للذاكرة، حل الشك محل اليقين، وطفا الى السطح السؤال حول ماهية الإنسان ومصيره في ظل عالم أضحى طبلاً أجوف مجرداً من كل شروط إنسانيته. يقول لويس أراغون في مستهل روايته Anicet ou le Panorama: (ألا نعير اهتمامنا للحرب كان في حد ذاته وسيلتنا الدفاعية الوحيدة ضدها، فالصمت عنها داخل كتاباتنا، كان الوسيلة الأنسب لمحو أثرها واجتثاثها من فوق الكرة الأرضية). ستعرف المرحلة أيضاً نتاجاً فكرياً جديداً تمثل في الفلسفة الوجودية، والتي ستجعل من الحرية مبحثاً لها, تاركة بصمات واضحة على كتابات كل من سارتر وكامي، ومنتجة مضامين جديدة داخل صيغ وقوالب قديمة. أما نظرية المحاكاة فسيتم إقصاؤها من جميع الفنون نتيجة اتجاه المبدعين إلى تجريد كامل للحياة داخل أعمالهم تأثراً بالرسامين التجريديين وعلى رأسهم (كاندسكي). يقول أبولينير: (أعتقد أن على المرء أن يعود إلى الطبيعة لا بهدف تقليدها أو محاكاتها على النحو الذي يفعله أصحاب الكاميرات... عندما أراد الإنسان أن يقلد حركة المشي، اخترع العجلة والتي لا تشبه القدم في شيء، لا يجب أن يكون المسرح نقلا للواقع، بل على كتاب الدراما أن يستخدموا الأصوات والحركات لا لكي يصوروا الحياة، بل ليقدموا جوهرها نفسه)، هكذا هو فعل الإبداع المسرحي يملك مبررات وجوده داخل إطار وجوده الخاص، وليس من المفروض أن يحيل على واقع معين أو حقيقة محددة. يقول يونيسكو في هذا الصدد: (إن الكاتب ليس مربياً أو خطيباً واعظاً، فالإبداع يستجيب لضرورة فكرية ملحة. الشجرة هي شجرة وليست محتاجة للتعريف بنفسها كشجرة. وهي في غنى عن تصريح مني لتبرر وجودها كشجرة). إن مسرح العبث يدعونا إلى افتراض الأشياء في غير موضعها المألوف. فمن خلال توظيفهم للتهكم يستطيع الكتاب إفراغ الواقع من إطاره والارتقاء به في لعبة متشبعة من الروابط غير العادية وغير المتوقعة. الدرجة صفر في الكتابة المسرحية يحيلنا هذا العنوان على كتابات رولان بارت الذي تطرق لظاهرة (الدرجة الصفر في الكتابة) المميزة للكتابة المعاصرة. (فالفرضية النظرية التي ينطلق منها بارت لتصنيف الكتابات الأدبية يستمدها من علم اللسانيات، وهي أن هناك صيغة بين صيغتين لا تشير إلى حالة المتحدث ولا إلى زمن أفعاله، إن هذه الصيغة تشكل لنا حالة من الحياد. نجد بعض ما يشبهها عند بعض الكتاب المعاصرين الذين اتجهوا إلى كتابة بيضاء أشبه ما تكون بالكتابة في الدرجة الصفر). لقد عمد يونيسكو إلى خرق كل النظم والتصورات معلنا عن قدوم جيل جديد من الكتاب المسرحيين، سيتم تصنيفهم فيما بعد في خانة كتاب الطليعة المسرحية، والتي يعرفها يونيسكو باعتبارها (ظاهرة فنية وثقافية تمهيدية.. إنها نوع من الماقبل أسلوب، فهي بمثابة الوعي بالاتجاه الذي يجب أن يسلكها التغيير، هذا التغيير الذي يجب أن يفرض ذاته أخيراً، ويغير كل شيء). ويمكن اعتبار مسرحية (المغنية الصلعاء) بمثابة الصدمة التي مهدت لهذا التغيير، إذ لاقت حين عرضها أول مرة سنة 1950 نوعاً من الاستهجان من قبل الجمهور والتحامل من طرف النقاد، لدرجة أن بعضهم استنكر أن اعتبارها عملاً مسرحياً، بل أكثر تفاهة يمكن أن يعرفها مسرح الفترة، ولم يتم تسجيل ردود فعل إيجابية تجاهها إلا ابتداء من سنة 1956 خصوصاً في الأعمدة النقدية التي كان يحررها آرتور آداموف، وصامويل بيكيت، اللذان سيواصلان فيما بعد مسيرة هذا المسرح الجديد، يقول يونيسكو عن هذه المسرحية: (إن نص المغنية الصلعاء أو (كتاب تعليم اللغة الإنجليزية)، مشكل من التعابير الجاهزة، من الكليشيهات الأكثر استعمالاً. والتي أبرزت لي ميكانيكية اللغة، تصرفات الأشخاص –الكلام من أجل قول شيء– الكلام لأنه لا يوجد شيء شخصي لقوله... غياب أي حياة داخلية، ميكانيكية الحياة اليومية، الإنسان غارق في محيطه الاجتماعي وغير مميز بأي شيء). فقلد أراد يونيسكو تعلم اللغة الإنجليزية، واشترى لهذا الغرض كتاباً مبسطاً لتعلم المبادئ الأولى للغة، وأثناء اشتغاله على هذا الكتاب سيكتشف مجموعة من الحقائق البديهية، والتي لم تتح له غمرة الحياة اليومية إثارتها، منها مثلاً أن الأسبوع يتكون من سبعة أيام، وأن السقف يوجد في الأعلى بينما توجد الأرضية في الأسفل.. وشيئاً فشيئاً بدأ يتجلى ليونيسكو أن الأمر لا يتعلق بكتاب لتعلم اللغة الإنجليزية، وإنما يتعلق بعمل مسرحي، فشرع في الكتابة فوراً مستمداً تعابيره من ذلك الكتاب فحتى شخصيات: مستر سميث ومسز سميث ومسز مارتان ومستر مارتان مستمدة منه، ليتبلور لنا فيما بعد عمل مسرحي غاية في الغرابة والطرافة. أما عنوان المسرحية فهو لا يحيل على شيء، إذ ليس في المسرحية أي مغنية صلعاء ولا حديث في المسرحية عن الغناء أو صلع، كل ما الأمر أن يونيسكو كان حائرا في عنوان المسرحية، فلقد سماها أول الأمر (النواس الإنجليزي).. وأثناء حضوره تدريبات المسرحية مع فرقة Nicolas bataille حدث أن تفوه أحد الممثلين، وكان يلعب دور الإطفائي بكلمة مغنية صلعاء سهواً أثناء لعبه لأحد مقاطع المسرحية، فما كان من يونيسكو (إلا أن صاح: وجدتها.. هذا هو عنوان المسرحية). إن شخصيات (المغنية الصلعاء) كما يقول عنهم يوجين يونيسكو: (هم بدون مميزات، إنهم مجرد قطيع كائنات بدون ملامح، أو بالأخرى إنهم إطارات فارغة، يتكلف الممثلون بإعارتها ملامح وجههم، روحهم، جلدهم، عظامهم). ويستطرد في هذا الصدد (إن شخصيات سميث، مارتان.. لا يعرفون كيف يتكلمون، لأنهم لا يعرفون كيف يفكرون، ليست لديهم أهواء، لا يعرفون كيف يتواجدون، بإمكانهم أن يصحبوا أي شيء، أي أحد لأنهم ليسوا الآخرين.... بإمكاننا أن نضع مارتن مكان سميث، ولن نلاحظ أي تغيير). إن خصوصية مسرح يونيسكو داخل كتاب العبث تتجلى في كونه مارس فعله التدميري من خلال لغة الشخصيات وخطابها، حيث تبدو اللغة كأنها خاضعة لميكانيزم خاص مستقل عن الحياة الداخلية للشخصيات، ويتجلى ذلك جلياً في مسرحيات (الدرس) و(المغنية الصلعاء) إن عبثية مسرح يوجين يونيسكو مستمدة من عبثية الحياة اليومية التي نعيشها ننتبه لتفاصيلها الصغيرة والغارقة في اللامعنى. وإذا ما عاد يونيسكو بالكتابة المسرحية إلى درجة الصفر، فإنه أراد تجريدها من زخرفها لأجل إبراز جوهرها، شأنه في ذلك شأن غروتوفسكي الذي مارس الفعل نفسه مع العرض المسرحي. ويلخص يوجين يونيسكو تصوره الفني بهذا الشكل (تقولون بأن المسرح في خطر، في أزمة إن هذا نتيجة لمجموعة من الأسباب، إن الكتاب ليسوا أحراراً، إنكم تريدون منهم أن يصبحوا مبشرين بكافة أنواع المعتقدات، تفرضون عليهم ألا يدافعوا، ألا يهاجموا، ألا يوضحوا إلا هذا وذاك). مسرحية الكراسي ليوجين يونيسكو تعتبر مسرحية (الكراسي) ليونيسكو من أشهر مسرحياته، وفيها تتجسد أهم خصائص مسرح يوجين يونيسكو عموماً، لاسيما تقنياته في الكتابة المسرحية، وتحكي المسرحية قصة مسنين معزولين داخل بناية عرض البحر، ينتظرون وصول جماعة من المدعوين، وأحد الخطباء، في انتظار وصول الخطيب الذي تتحدد مهمته في إبلاغ خطاب للإنسانية نيابة عن العجوز، تدور بين العجوزين أحاديث متقطعة، ومبهمة، بل ومغرقة في التجريد أحياناً. يفد حضور غير مرئي على التوالي. السيدة فالجنرال، ثم الجميلة وزوجها، وأخيراً وفود من الصحفيين.. يتناوب العجوزان على تبادل الحديث مع الحضور الوهمي يكشفان من خلاله عن أحلامهما، ماضيهما، إحباطاتهما. وذلك بعد تهيئة الكراسي لهم، إذ ترتفع وتيرة الحضور غير المرئي تدريجياً لدرجة أن العجوزين يغرقان في زحمة الكراسي، ولا يجدان حتى الوقت للكلام. بعد ذلك يدخل الإمبراطور لتصل حماسة العجوزين إلى ذورتها.. في النهاية يصل الخطيب، وهو شخص حقيقي على عكس باقي الشخصيات، حيث يعلن العجوز أن لا رغبة له في الحياة بعد الآن، إذ سيتكلف الخطيب بإيصال خطابه للعالم، بعد ذلك يلقيان بنفسهما في البحر. الخطيب عاجز عن الكلام، إنه أبكم، وأصم، والقاعة خالية إلا من الكراسي، والصمت. يحيلنا عنوان المسرحية (الكراسي) على عدة مضامين تتعرض لها المسرحية: الغياب، والانتظار، والاحتمالية، واللايقينية... وهي مضامين تميز مسرح العبث. ويمثل الحضور الوهمي في المسرحية كائنات عديمة، أو كائنات داخل العدم، حين تغرق القاعة تدريجياً بالكراسي، نشعر بالاختناق، الكراسي تتناسل بسرعة، مثل الخلية السرطانية، وهذا ميكانيزم أساسي في مسرح يونيسكو، هذا التناسل الجنوني الذي يحدث ليس على مستوى الفضاء فقط، بل حتى على مستوى اللغة، ويوظف لإبراز هذا الميكانيزم تقنية التسارع L’acceleration إذ يصبح للغة ميكانزمها الخاص والمستقل عن من ينتجها، يرى كلود أباستادو أن (التطور الدرامي في مسرحية الكراسي مرتبط أساساً بالتدفق اللغوي). فكل تطور داخل المسرحية لا يحدث إلا على مستوى اللغة، حيث يمكن اعتبارها أفعالاً درامية بامتياز، ففي بداية المسرحية يبدو (العجوزان) وكأنهما ينطقان بما يفكران به، لكن شيئاً فشيئاً يبدوان وكأنهما مجرد آلة لإيصال لغة تتشكل من تلقاء نفسها، إن الكلمات في مسرحية الكراسي هي خامة، مجردة من كل إحالة يمكن أن تحيل عليها، وهي تتشكل وفق معجمها الخاص، حيث نجد في كلام العجوزين تعداد المجموعة من الصور المجردة مع استحضار لتشكيلات لغوية لا يربط بينها سياق لغوي، وإنما وحدة حقلها اللغوي: كل أجزاء الزمن، وأعضاء الجسد، وأنواع المهن، وأنواع الأمراض، والفيروسات: On était tout mouillé, glaçait jusqu’au, depuis des jours, des nuits des semaines …des mois..Dans la pluies … on claquait des oreilles, des pieds, Des genoux, des nez, des dents. وفي حالات أخرى يكون الرابط بين الكلمات تجانسها اللفظي. Le pape. les papillons. Et les papiers …. إن أصل السلسلة الكلامية هو كلمة: pap التي تتشابه في كل الكلمات لتنتج لنا تفريعات مختلفة. أما في أغلب الأحيان فإن اللغة تتحول للعب صوتي Jeu sonor Pour préparer des crêpes de chien! Un œuf de, une heur de beurre des sucre gastrique … vous avez des doits adroites. إن يونيسكو يهدم الحوار المسرحي بتغييبه كل رقابة لغوية من طرف الشخصيات، فيتحول بذلك الحوار المسرحي إلى ضجيج فوضوي أقرب إلى اللغو منه إلى الكلام. يقول بول فيرنوا: (هناك وسيلة أخرى لتخفيف الحوار وواقعيته، تتمثل في إبراز متحاورين كل في قوقعته الخاصة، فيما يتم إحداث قطيعة بينهم لكشف التباعد أو اللبس الذي يغرقون فيه). إن الشخصيتين) العجوز، العجوزة( تتشكلان وفق ثنائية تقليدية: الزوج والزوجة، لكنها ثنائية لا تتميز بانسجام ثنائيات المسرح التقليدي، فهما رمز للتناقض داخل الثنائية الواحدة، كما أن تجريدهما من الاسم والاقتصار على تسميتهما بالعجوز والعجوزة هو من (مميزات مسرح العبث). إلى جانب تجريد الشخصيات من كل خصوصياتها. قد تبدو حوارات العجوزين مجرد تخريف غارق في الرتابة والتكرار، لكننا إذا ما توغلنا فيه سنجده يحمل منطقه الخاص. ففي أحاديثهم كل الصور المجردة التي يمكن أن تمر بمخيلة الفرد منا، لكنه لا يستطيع أن يبوح بها، فكل الآليات المعقدة للغة تفكر بها ولا نفصح عنها. إن ثنائية العجوز/ العجوزة تسقط في التناقض على طول المسرحية، ففي الوقت الذي يدعي فيه العجوز أنه كان جاحداً تجاه والديه، تدعي العجوزة بأنهما ماتا بين أحضانه، وهما يدعوان الله كي يجازيه على معاملته الحسنة لهما، إن هذا التناقض يكشف لنا بأن زمن البراءة قد يكون في الوقت نفسه زمناً للخطيئة. في أحاديث العجوزين كل الأحلام والمبتغيات التي لم يكتب لها أن تجد طريقها للوجود، أما الحضور الوهمي فهو الآخر الذي لم يستطيعا أن يكوناه. يكشف لنا انتحار العجوزين في نهاية المسرحية عن سخرية لاذعة تخبئها الحياة الغارقة في المفارقات، فخطابهما لن يصل إلى الإنسانية كما كانا يرجوان، لن تكون هناك شوارع بأسمائهما، ولن يصبحا بطلين. القاعة المزدحمة بالكراسي في نهاية المسرحية.... الموت بدون طائل، إنه العدم، العدم. مسرحية (يا طالع الشجرة) لتوفيق الحكيم المعروف أن توفيق الحكيم كتب مسرحية (ياطالع الشجرة) تأثراً بكتاب العبث الذين عاصرهم أثناء مقامه بباريس في شبابه، وقد أراد بهذه المسرحية أن يبين من خلال توظيفه للتراث بأن العبث موغل في النسيج التراثي العربي والمصري خصوصاً، وأنه يمكن توظيفه لإنتاج مسرح عبث عربي متفرد وأصيل.. فإلى أي حد توفق الحكيم في ذلك؟ تحكي مسرحية (ياطالع الشجرة) (قصة زوجين مسنين، يحدث يوماً أن تختفي الزوجة لتبدأ رحلة التحقيق في ملابسات اختفائها، حيث ينتقل المحقق بين فضاءات وأزمنة مختلفة في محاولة منه لتقصي الحقيقة، هكذا يرحل إلى الزمن الماضي أيام عمل الزوج كمراقب للقطار، فيلتقي بالدرويش الذي يلمح إلى إقدام الزوج على قتل زوجته، ودفنها تحت شجرته المفضلة، كي تثمر ثمراً يتنوع، ويختلف في كل فصل، على إثر هذا التلميح يلقى بالزوج في السجن، ويبدأ الحفر تحت الشجرة لإخراج الجثة... أثناء ذلك تظهر الزوجة المختفية فجأة فتتضح براءة الزوج، لينال حريته كي يبدأ شوطاً من التحقيق والتساؤل محاولاً معرفة المكان الذي غابت فيه زوجته كل تلك المدة، لكنه في كل مرة كان يصطدم برفض زوجته الإفصاح والاعتراف، ليثور، ويهتاج فتتحول المناقشة بينهما إلى مشادة كلامية تنتهي بمقتل الزوجة. يظهر آنذاك الدرويش مرة ثانية معلناً للزوج حتمية العقاب الذي ينتظره، فيقر هذا الأخير دفن زوجته تحت الشجرة، ولما يهم بالتنفيذ، يجد أن جثتها قد اختفت، وحلت محلها سحلية مقتولة. يبني توفيق الحكيم فلسفته في مسرح العبث على فكرة أن الواقع لا يخضع أبدا لشروط العقل، وأن العقل لا ينتج واقعاً يشابهه، فالحقيقة بالضرورة ليست يقينية بل مجرد وجهة نظر لا غير. الزوجة: أصدقك كل التصديق المحقق: ولكنك كنت تكذبينني منذ قليل الزوجة: لأنني كنت أتكلم حسب عقلي المحقق: والآن؟ الزوجة: حسب ما حصل في مستهل المسرحية يتواصل الزوج والزوجة من خلال اللاتواصل، فالزوج مهووس بشجرته، والزوجة مهووسة ببنتها التي لم تلدها لكونها أسقطتها في شهرها الرابع. الزوج: هذه الحديقة لا تتعرض لمساقط الرياح، ومع ذلك عندما أزهرت شجرة البرتقال خفت على الزهر لكن الله سلم ولطف. الزوجة: نعم... والله سلم ولطف، اجترنا أيام الفقر، وعندما جاء الفرج طلبنا الخلف لكن هيهات، إنه السقط الأول بلا شك، كان قد أثر في رحمي.. نعم هو السقط الأول. الزوج: نعم هذا السقط الذي حدث ليس على كل حال بشيء ذي بال، إنه لا يعدو أن يكون ثلاث أو أربع ثمرات من البرتقال الأخضر الصغير في حجم البندقة. إن الاستماع للآخر ما هو إلا ذريعة للغوص في العالم الشخصي.. كل يتحدث عن عالمه الخاص.. كل في قوقعته كما يحدث تماماً في بداية مسرحية الكراسي ليونيسكو، لكن حين تحضر الزوجة في الفصل الثاني، تنقلب الحقائق رأساً على عقب، حين تجزم بأن زوجها لم يحادثها يوماً عن الشجرة بل كان يحادثها عن الثمرة التي في أحشائها، وأنها هي من كانت تحادثه في المقابل عن الشجرة.. إنها لمفارقة كبيرة يسخرها توفيق الحكيم ليسخر من كل التقنيات فاتحاً نصه المسرحي على أفق غير متوقع وعلى احتمالات كثيرة. وكما في مسرحية (الكراسي)، فإن اللغة في (يا طالع الشجرة) تتناسل بطريقة سرطانية والحوار يتحول إلى طاحونة كلامية. المحقق: متى اختفت سيدتك بالضبط؟ الخادمة: ساعة عودة السحلية إلى جحرها المحقق: تقصدين المغرب؟ الخادمة: لم أبصر الشمس تغرب المحقق: ومتى تعود السحلية إلى جحرها؟ الخادمة: عندما يظهر سيدي من تحت الشجرة. وهكذا دواليك تنبثق الأسئلة والأجوبة، لتدور عجلة اللغة من تلقاء نفسها... فتكثر الحوارات المبتورة والمتنوعة بنقط الحذف كما لو أن الشخصيات لا تدرك ما تريده بالضبط، وكما هو الشأن أيضاً بالنسبة لمسرحية (الكراسي)، تكثر الكلمات التي تنتمي لنفس الحقل الدلالي (مستشفى، ومصحة، وبانسيون، وماخور...) في شكل أسئلة.. في حين يستفسر الزوج زوجته عن مكان غيابها تصبح للأسئلة ميكانيزماتها الخاصة. الزوج: ملجأ أيتام؟ الزوجة: لا الزوج: روضة أطفال؟ الزوجة: لا الزوج: في عوامة؟ الزوجة: لا الزوج: في قطار؟ الزوجة: لا الزوج: في سيارة؟ الزوجة: لا الزوج: في طائرة؟ الزوجة: لا الزوج: في باخرة؟ الزوجة: لا الزوجة: في عوامة؟ الزوجة: لا. تغيب في النص الحبكة بمفهومها التقليدي، حيث التمهيد والتطور التصاعدي فالعقدة ثم الحل.. أي غياب المفاهيم الأرسطية. فمسرحية (يا طالع الشجرة) تقوم على حبكة مترهلة بمعنى أن التطور الدرامي لا يحدث إلا على مستوى اللغة.. أما الحدث فهو مفتوح على جميع الاحتمالات. فيما يخص الشخصيات المسرحية، فهي تبدو فاقدة للذاكرة أو تكاد.. حتى أن الآخر يعرف عنها أكثر مما تعرف هي عن نفسها، مثلما نجد في مقطع المفتش ومساعده. ومن بين المستويات التي تتقاطع فيها كل من مسرحية (الكراسي) و(يا طالع الشجرة)، نجد حضوراً قوياً لثيمة الشيخوخة (زوج وزوجة مسنين وخادمة عجوزة)، كما تحضر ثنائية الحضور والغياب، ففي بداية الفصل الثاني يحاور المحقق حفاراً غير ظاهر والخادمة تحادث لباناً وهمياً، إنه التقابل بين المرئي وغير المرئي.. والشخصيات تستطيع أن تتفرج على ماضيها، وأحياناً لا تعرفه ألبتة، وهي في أحيان أخرى، من داخل ماضيها لا تتعرف على حاضرها لكون المسرحية موسومة بفكرة النسبية أو الحقيقة غير الثابتة التي تتغير بتغير زاوية النظر. فالدرويش يستطيع أن يرى حقائق مختلفة عن تلك التي يراها المفتش، لأنه وإن كان يركب القطار نفسه الذي يستقله المفتش نفسه، فإنه يتجلى لنا في حقيقة كونه يركب قطاراً آخر هو قطار الأزل... فحين يسأل المفتش الدرويش عن تذكرته يقدم له شهادة ميلاده. الدرويش: هي تذكرتي التي أركب بها القطار المفتش: أي قطار؟ الدرويش: القطار الأصلي المفتش: أي قطار أصلي؟ الدرويش: القطار الأصلي الذي قام قبل هذا القطار الفرعي... ألا تعرف ذلك؟ المفتش: اسمع أنا لا أعرف هذا الكلام.. أعطني تذكرتك التي تركب بها قطاري هذا. إن في هذا استلهام وتوظيف بنيوي للفكر الصوفي داخل الحبكة المسرحية، مما يخلق مواقف غير معقولة هي في العمق عين العقل وعين الصواب. عموماً فإن توفيق الحكيم قد خلص إلى مسرح عبث عربي الملامح، وإن كان غربي الشكل، والمكونات، والخصائص... مستنداً في ذلك إلى روح التراث وأصالته... إلى طقوس وأجواء خاصة، نجده يؤكد ويدعو إلى توظيفها وتسخيرها خدمة للمسرح العربي لاسيما في قالبه المسرحي الذي ما فتئ يكرسه من خلال كتابته النظرية والإبداعية على حد السواء.
مشاركة :