د. عمر عبدالعزيز لا يمكن تفسير الرغبات العالمية الجامحة في الدعوة إلى الانفصال، لأسباب اجتماعية مادية صرفة، كما يظهر بصورة جلية في البلدان النامية ضعيفة التطور؛ بل يمكن استكناه أبعاد نفسية مؤكدة في بعض تلك الدعوات، فالمعروف أن العنف الواقع على (الغيريين) المهمشين ليس عنفاً مادياً حياتياً بالضرورة؛ بل إنه يتقمص في كثير من الحالات بُعداً معنوياً، حتى أن العنف النفسي المعنوي ليس أقل أثراً من المادي إن لم يكن أبلغ في تهشيم الوجدان.اليوم تنبري ظاهرة الرغبة في الانفصال وتقرير المصير، لتشمل القارات الكبرى في العالم، وسنرى أن المتوالية لم تبدأ باليمن الجنوبي، ولم تنته بشمال الصومال، فقد التحقت جورجيا بذات المعادلة منذ سنين خلت، كما تنخرط أوكرانيا بسخاء عظيم في مشاريع التجزئة والتفتيت، وتتعرض المجر ورومانيا ومولدافيا لذات الاحتمالات بالقدر الذي تنبعث فيه الصراعات الأوروبية القديمة بشقيها القومي والديني، ما لسنا هنا بصدد تفصيلها. بريطانيا بدورها تواجه مشكلة متجددة رغم نجاحها الباهر في إنهاء مشكلة إيرلندا، ففي المكون الإسكتلندي مطالبة متسارعة في البحث عن خروج من المملكة المتحدة، ومن سخريات القدر، أن يكون خروج بريطانيا المبدئي من الاتحاد الأوروبي عاملاً مشجعاً في هذا الجانب. فالإسكتلنديون الانفصاليون يقولون إن المملكة المتحدة، التي تعتد بالاستفتاءات الشعبية في تحديد مصائرها الاستراتيجية أولى بها أن تسمح بذلك داخلها، خاصة وأنها أكثر الديمقراطيات التاريخية رسوخاً ووضوحاً.وعلى خط متصل، يطالب إقليم كتالونيا بالخروج من المملكة الإسبانية؛ بل إن خروجها المحتمل والقريب يفتح أبواب جهنم على كافة الدول المتشاطئة في حوض البحر الأبيض المتوسط؛ بل ووسط وشمالي أوروبا، ويمهد الطريق لاستعادة سيناريوهات ما قبل الحربين العالميتين ذات السياقات الإمبراطورية القومية والدينية. متوالية المطالبات بتقرير المصير، تجد كامل المسوغات القانونية الدولية كما حدث في تشيكوسلوفاكيا السابقة، ويوغوسلافيا السابقة، وصولاً إلى تيمور الشرقية في إندونيسيا، أما الاتحاد السوفييتي السابق، فقد قدم النموذج الحر للتنازل التام عن الكيان الإمبراطوري السوفييتي؛ لتحل محله كيانات متشظية بتسمية شفافة تؤذن بعودة الإمبراطورية السوفييتية الخابية.. الوارثة الشرعية للإمبراطورية القيصرية الروسية. وبالقدر الذي تجد فيه الدعوات الانفصالية مسوغات ممارسية عرفية دولية، تواجه في ذات الوقت رفضاً وطنياً قومياً دينياً مدججاً بالعاطفة والحماسة في بلدانها الأم، وهو الرفض الذي يولد ردود أفعال داخلية موازية، خاصة عندما يكون الرفض المؤسسي مقروناً بتجاهل المظالم والتمييز بحق المواطنين الواقعين تحت سطوة المركزيات الناهبة للدولة والمقدرات، والمتوارية وراء غلالات من الاصطفافات المناطقية الضيقة، التي كانت وما زالت السبب وراء التوق للانفصالات وتقرير المصير. الحالة الكردية الراغبة في الانفصال عن العراق، وتقرير المصير تمثل وجهاً تراجيدياً في المعادلة، فالأكراد يتوزعون عملياً على تركيا والعراق وإيران وسوريا، وبالمقابل تنتظم في هذه الدول انساق قومية ودينية متنوعة، وتجد هذه الأنساق امتدادات أفقية ورأسية في عموم أوروبا وآسيا.. الأمر الذي يوضح لنا مغزى التمترس العالمي في رفض الانفصال الكردي عن العراق، فهذا الانفصال سيستمر بقوة دفعه الخاصة ليشمل تركيا وإيران وسوريا أيضاً، وبنفس القدر سيمنح عديد القوميات والأديان الآسيوية والأوروبية الفرصة السانحة لذات المطلب المشروع من زاوية حق تقرير المصير. لقد عانت البشرية طويلاً صراع الأديان والقوميات، وكانت أوروبا التاريخية خير مثال على تلك المعاناة؛ حيث تقاتل الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذوكس بوصفهم دينيين ومدججين في آن واحد بالفكر القومي على تنوعه السلافي والإنجلوسكسوني الجرماني واللاتيني. وقد واجهت الهند الكبرى قبيل استقلالها عن بريطانيا مشكلة عويصة، ولولا حكمة المهاتما غاندي، ونظرته الثاقبة لانزلقت الهند وباكستان وبنجلاديش لحرب أهلية مدمرة، واليوم تشهد الحقائق كيف أن خيار التوافق التقسيمي النابع من منطلق ديني اختياري، منح الهند الاتحادية فرصة كبرى للتحليق في عالم التنمية والعدالة والمواطنة المتساوية، فيما تغرق باكستان وبنجلاديش في الانقلابات والفساد وضعف التنمية.المثال الهندي الراهن خير خيار للعقلاء والمصلحين، فالحروب الداخلية لا تنتج سوى الدمار الشامل.. العابر للزمان والمكان، والتعددية الحياتية المقرونة بالدولة الحديثة اللامركزية تحاصر وتخنق العنفين النفسي والمادي، وتجعل الوئام الوطني والمحبة والتعايش، السمة الرئيسية في المجتمعات البشرية المحكومة بالتعدد جبراً لا خياراً. omaraziz105@gmail.com
مشاركة :