كتبت عبارة على الفيسبوك أقول فيها: "هناك محاولات مستميتة لعلمنة مجتمعنا.. برأيي.. لا تتعبوا أنفسكم.. لن نتعلمن..". بالطبع، استفزت هذه العبارة أنصار العلمانية الذين يشعرون أنهم يواجهون مجتمعات مسلمة لا زالت متمسكة بدينها، رغم التيارات الصاخبة التي تعصف في حياة الناس هذه الأيام، ورغم قيام الحكومات والأنظمة السياسية بفرض السياسات العلمانية قسراً، وبقوة الأمر الواقع. وتلخّصت التعليقات على العبارة بأمرين اثنين؛ الأول: أن العلمانية هي حتمية، وأن المجتمعات تسير نحو العلمانية، وأن مَن لا يرى ذلك يعيش في وهم. والثاني: أن البديل عن العلمانية هو التطرف والإرهاب. بصراحة، أشعر بالسعادة حين أرى تعليقات مثل هذه؛ لأنها أولاً تثير لديك التفكير والتحليل ومراجعة الرؤية. وثانياً لأنها تجعلك تدرك أن الناس يفهمون العبارة بأساليب وطرق مختلفة، وأن هناك حاجة بالفعل إلى الحوار الثقافي والفكري بين الناس. وبصراحة أكثر، أشعر أننا في كثير من الأحيان نجد صعوبة في صياغة الكلمات والعبارات الواضحة، ذلك أن هناك مَن يعتبر أن عباراتك تمثل "إرهاباً فكرياً"، فمثلاً: إذا قلت لشخص إن الإسلام يصلح لكل زمان ومكان، وإن النصوص القرآنية تؤكد بشكل قاطع أن هذا الدين باقٍ إلى يوم القيامة، وبالتالي لا يمكن "علمنة" المجتمع المسلم. ثم تقول له: إذا كنت مسلماً، فيجب عليك أن تؤمن بهذه الحقيقة؛ لأنها قطعية النص والدلالة، وأن الدين جاء ليس فقط للعبادة، بل لتنظيم شؤون الناس.. فسيقول لك: أنت تمارس الإرهاب الفكري، وتكفّر الناس، وتسعى لمنعهم من التفكير والتعبير عن الرأي. لذلك أصبحنا نبذل جهداً أكبر في اختيار الكلمات والألفاظ، بل ونراجع أفكارنا وأساليبنا، حتى لن نُتهم بالإرهاب الفكري. بكل الأحوال، وجدت أن موقع "هاف بوست" يتيح لي مجالاً أكبر للتعبير بشكل مفصل عن هذه القضية، فآثرت أن أتحدث في مدونات "هاف بوست" بما تبادر لذهني حين قرأت التعليقات على صفحتي على الفيسبوك. أفهم العلمانية على أنها "سلخ الدين عن الحياة"، بمعنى أن الدين فقط في المسجد، ومحصور في مجال العبادات والعلاقة بين الإنسان وربه، ولا علاقة لما يمارسه الإنسان في حياته بالدين. وبرأيي فإن هذه مشكلة تتعلق بالبناء الاجتماعي والثقافي للمجتمع. فبهذا المفهوم، تفقد المجتمعات هويتها، وتذوب في مفاهيم العولمة التي تجتاح العالم هذه الأيام. فالعلمانية تعني أن كثيراً من الممارسات التي لا يقبلها الدين، يجب أن تصبح أمراً واقعاً، وأن تصبح مقبولة، وجزءاً من البناء الثقافي في المجتمع. فإذا حدث ذلك بأن تقوم الأنظمة السياسية بفرض العلمانية على الشعوب، فهذا يعني أن الشعوب تصبح تحت هيمنة واستبداد فكري وثقافي، فوق ما هي تحت هيمنة سياسية. وهذا لا يعني بحال من الأحوال وبالمطلق أن المجتمعات أصبحت علمانية. يقول البعض: إن مجتمعاتنا ليست مجتمعات إسلامية في الوقت الحالي، طبعاً لا مجال للخوض في هذه المسألة هنا؛ لأن هناك واقعاً سياسياً غير عادي تمر به المنطقة، ونخضع بالكامل في هذه الفترة من التاريخ لهيمنة مركبة. هل نفصل بين العلمانية والديمقراطية؟ إذا كانت الديمقراطية هي خيار الشعوب، فضلاً عن المكونات الأخرى الأساسية للديمقراطية، مثل: التعددية، والمشاركة الشعبية، وحرية الاختيار، فماذا سيكون موقفنا إذا اختار الناس النظام الإسلامي، ولم يختَر النظام العلماني؟ دعونا على الأقل نخضع لخيار الناس، مهما كان هذا الخيار. وبالطبع، من حق التيارات الفكرية أن تسوّق أفكارها للجمهور، وأن تعمل على إقناعه بها، ولكن في النهاية، يجب أن نخضع لاختيارات الشعوب، وأن نحترمها حتى لو اختلفنا معها. ولا ضير أن تصبح العلمانية هي الفكر السائد إذا كانت خيار المجتمع، بل إننا يجب أن نقبل خيار الشعب إذا كنا نؤمن بالديمقراطية وحرية الاختيار، رغم أننا قد نحمل فكراً مخالفاً. فمن حق الشعب أن يختار نظامه الثقافي والسياسي، وفق المبادئ الديمقراطية المتعارف عليها. أما فيما يتعلق بأن البديل هو التطرف، فهذا كلام غريب، فنحن نعلم أن الإسلام يرفض التطرف، بل إن المسلمين يرفضون التطرف، ومن المؤلم فعلاً أن ظهور الحركات المتطرفة في المنطقة تجعل الناس يتخوفون من الإسلام، ولا يرون فيه إلا التطرف. برأيي فإن غالبية الشعوب المسلمة هي شعوب معتدلة، ومع الاعتدال، وتتوق لنموذج إسلامي معتدل تلتف حوله، وترى فيه معبراً عن حقيقة الدين التي يراها كل منا في ذهنه. في اليوم التالي لكتابتي العبارة على الفيسبوك، وفي محاضرة الساعة الثامنة صباحاً، طرحت الموضوع على الطلبة، وهم يمثلون عينة عشوائية من جيل الشباب، فهم أتوا من مناطق مختلفة، ومن بيئات مختلفة، وكلهم بعمر العشرين عاماً. المفاجأة هي أن الجميع يقول إنه لا يمكن إخراج المجتمع عن إسلامه، وإن الدين هو جزء أصيل في حياتنا، وإننا نتحرى رأي الشرع في تفاصيل حياتنا. وفي نهاية المحاضرة، أجريت تصويتاً للطلبة. السؤال كان: من منكم لا يقبل بحكم إسلامي؟ ومن منكم يقبل بحكم إسلامي؟ ربما يعتبر البعض أن هذا السؤال هو شكل من أشكال الإرهاب الفكري. ولكن طلبتي يعلمون جيداً أنني منفتح على كل الآراء، وأن التصويت نزيه إلى أبعد الحدود. فكانت النتيجة أنهم، وبالإجماع، قالوا إنهم يرغبون بحكم إسلامي (طبعاً غير متطرف)، ولم يصوّت أحد من الطلبة لعدم القبول بحكم إسلامي. طبعاً الموضوع أعقد من ذلك وأوسع، ولكن يمكن لمن يؤيد فكرتي ومن يعارضها أن يعتبر هذه مقدمة بسيطة لموضوع يحتاج إلى بحث أكثر عمقاً واتساعاً في مجتمعنا الفلسطيني بشكل خاص، ومجتمعاتنا العربية بشكل عام. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :