أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح آل طالب، المسلمين بتقوى الله وأن هذه الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم: أيها المسلمون.. بين الأعمال وأجزيتها رباط وثيق؛ فمستقبل الخير نضير ولو كان حاضره معنتاً، ومستقبل الشر سيئ وإن كان حاضره خادعاً، والناس عادة معنيون بيومهم الحاضر، ومستغرقون فيه؛ وذلك حجاب عن الحق، وأحبولة يقع فيها الغافلون. وأضاف: في كتاب الله تعالى سورة تسمى (سورة الفلاح)، وهي في المصاحف سورة المؤمنون، تُعلّق الأبصار بالآخرة، وتُطمئن المؤمنين إلى مستقبلهم الطيب؛ أما الكافرون فالويل لهم. وأردف: بدأها الله بذكر الفلاح، وختمها بذكر الفلاح؛ بدأها الله بذكر فلاح المؤمنين فقال: {قد أفلح المؤمنون}، وختمها الله بنفي الفلاح عن الكافرين فقال: {إنه لا يفلح الكافرون}، وما بين مفتتحها والختام ذكر الله صفات المفلحين، وقصص الأنبياء مع أقوامهم؛ فمن آمن فقد أفلح ونجا، وذكر الله في تضاعيف السورة من أسباب الفلاح، وفي آخرها خاتمة المفلحين والمكذبين: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون}. وتابع: أيها المسلمون.. {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}. وقال "آل طالب": الله ذكر من صفات المفلحين: أداء الصلاة والزكاة، وهما القرينتان في دين الله، قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}، وفي الحديث: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)، كما ذكر الله من صفات المفلحين: حفظ اللسان وحفظ الفرج، وهما القرينان؛ روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، واللغو: كل كلام باطل لا فائدة فيه، وما أكثر اللغو في حديث الناس! فمن أعرض عن اللغو في الدنيا كان من ورثة الفردوس الذين من جملة نعيمهم الذي أخبر الله عنه في كتابه: {لا يسمعون فيها لغواً}، {لا تسمع فيها لاغية}، كما ذكر الله من صفات المفلحين: حفظ الأمانة ورعاية العهود والعقود؛ فليسوا كالمنافقين الذي إذا عاهد أحدهم غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. وأضاف: في صفات المفلحين هذه مزيج من العقائد والأخلاق، والعبادات والمعاملات، وقد وعد المتمسك بها بالفلاح {أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن". رواه البخاري. وأردف: في وسط السورة تكرار لهذا المعنى وهذه الصفات في ثوب آخر: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}، وظاهر أن الموصوفين بما ذُكر هم المذكورون في أول السورة، الموعودون بالفلاح، وبالفردوس هم فيها خالدون، روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: (ا يا بنت الصديق؛ ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا تُقبل منهم، {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}). وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: يذكر الله تعالى أولاً في سورة الفلاح "سورة المؤمنون"، قصة نوح وما كان من قومه، ولم يذكر قبله إلا قصة الخلق؛ وذلك أن الناس كانوا قبل نوح على التوحيد والفلاح، وأول شرك وقع في الأرض شرك قوم نوح عليه السلام، روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق"؛ وإنما قص الله خبر نوح وقومه ذكرى لمن بعدهم كما قال تعالى في ختام القصة: {إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين}، قال الإمام مالك رحمه الله: "السنة سفينة نوح: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق". وأضاف: تمضي السورة فتذكر بعد قصة نوح قصة قوم آخرين لم يسمهم الله تعالى؛ فاختلف المفسرون هل هم عاد قوم هود، أو ثمود قوم صالح، قال تعالى: {ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين، فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون}، والظاهر أن الله لم يسمهم لأن العبرة حاصلة بدون ذلك، ولأن القصد ذكر عاقبة المفلحين المصدقين، وعقاب المكذبين، {قال رب انصرني بما كذبون، قال عما قليل ليصبحن نادمين، فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاءً فبعداً للقوم الظالمين}، {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون، ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون}.. أهلك الله الأمم المكذبة، فكانوا أثراً بعد عين، وحديثاً يتناقله السمار؛ فبعداً لقوم لا يؤمنون {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين}. وأردف: بعد نزول التوراة لم يهلك الله أمة من الأمم بعذاب الاستئصال، أو بالهلاك العام، قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى}؛ ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية، وآتى الله موسى من الآيات ما بقي خبره: {ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون، وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين}. وقال "آل طالب": في ثنايا سورة المؤمنون أسباب الفلاح لائحة، ونفحات المولى الكريم غادية رائحة؛ فمن أسباب الفلاح في هذه السورة أكل الحلال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم}، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم}، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك؟!). رواه مسلم. وأضاف: من أسباب الفلاح؛ تدبّر القرآن الكريم، والإيمان به، والوقوف عند أوامره ونواهيه، {أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين}؛ فكتاب الله هو النور والهدى والرحمة، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون، {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً}. وأردف: من أسباب الفلاح كذلك في هذه السورة معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، والتمسك بهديه، والاعتبار بما جرى له من أحوال {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون، أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون}، وهذان الأمران هما الأصلان اللذان لا عدول عنهما، ولا فلاح ولا هدى إلا بهما، والعصمة والنجاة في التمسك بهما، ويجمعهما قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم وصححه: (إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)، وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه في حجة الوداع: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله). وتابع بالقول: من أسباب الفلاح في سورة الفلاح، الدعاء {إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين}، دعاء بقلب خاشع، ولسان ضارع، وطرف دامع، أن يسلك الله بك طريق المفلحين، وأن يثبتك على الإسلام حتى تلقاه، قال حذيفة رضي الله عنه: "ليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا كدعاء الغريق" رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). وقال "آل طالب": من أسباب الفلاح في سورة "المؤمنون" الصبر {إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون}، وما نال أحد خيراً في الدنيا والآخرة بعد فضل الله تعالى ورحمته إلا بالصبر، وبالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، وفي أمثالهم من صبر ظفر، ومما يعين على الصبر تصور العاقبة، واليقين أن الصبر عن معاصي الله أيسر من الصبر على عذاب الله؛ مستشهداً بقول الله تعالى: {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}، وقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}.
مشاركة :