قل لي شيئاً أيها اللاجئ، حتى تهدّئ من صراعي تجاهك، افعل شيئاً مثيراً للغثيان حتى آنف منك ومن لقائك، اقترب مني حتى أُصاب بالهلع من إصابتي بعدوى تلك من العدوى التي تنتشر بين صفوفكم، اطلب مني المال كما هو المعتاد حتى أقول لك: ليس معي. حلوى بنكهة عزة النفس ذهبت ورفيقي إلى أحد المخيمات القديمة على حدود بنغلاديش/بورما والذي يستوطنه مئات الآلاف من عِرق الروهينغا النازحين من بورما بلادهم، كان معه حقيبة بلاستيكية بها عشرات الحلوى الصغيرة التي لا تتعدى حجمها عقلة الإصبع الصغيرة، كان يوزعها على العديد من الأطفال الذين لم يتجاوز أعمارهم 10 سنوات، وقعت واحدة في أثناء التوزيع، لم نلتفت إليها إلى أن أتى بها ذو السنوات السبع، يعطيها لنا بكل أدب، ليعيد صديقي إعطاءها إليه، ناظرين إلى بعضنا البعض في ذهول. رغيف يسع الجميع ركبنا حافلتنا التي تقلّنا يومياً من المخيمات إلى الفندق حيث نبيت، وقبل أن نتحرك وجدنا تجمُّعاً للأطفال بجوار الحافلة ينظرون إلينا.. فقط ينظرون، لا يتكلمون، لا يصرحون بشيء حتى ولو بلغة الإشارة، قرأنا ما بعيونهم، أخرجنا رغيف خبز أبيض لونه ليس في خريطة جينات جلودهم الداكنة، أعطاها صديقي لطفلة لم تتجاوز الـ10 سنوات، فرحت، تراجعت خطوات، وقفت، اقتسمت الرغيف 5 قطع أو يزيد وقامت بتوزيعه على من امتدت أيديهم إليها واحتفظت هي بقطعتها. البورميون لا يتسولون تحركت الحافلة، وبعد دقائق وقفنا بطلب مني؛ حتى أقوم بتصوير مشهد فوج يلبي نداء مساعدات قادمة إليهم، وقف أحد الأطفال تحت زجاج باب السيارة ينظر إليّ لا يتكلم، فقط ينظر إليّ، وأنا أقوم بتصويره بكل برود أعصاب (انظر صورة التدوينة). وعلى الجانب الآخر، كان هناك رجل يمد يده طالباً المساعدة، بعدها قال لنا صديقنا البنغالي في السيارة: هذا الرجل بنغالي وهذا الطفل بورمي. قلنا له: وكيف عرفت هذا؟ قال: البورميون لا يتسوّلون. تاريخ أرطغرل هكذا بكل بساطة أتعرف على قوم أعزّة على المحتل أذلةّ على أنفسهم لا على غيرهم. البورميون الذين حكمهم "سليمان شاه" والد أرطغرل الذين تشاهدون الآن مسلسله ذا الـ100 حلقة، قوم حقد عليهم المحتل البريطاني ورحّل عن أرضهم منذ 80 عاماً، ولكن لم ينسَ المحتل أن "أراكان" -تلك الولاية الحاضنة للعرق "الروهينغي"- ذاق منهم مقاومةً لم يذقها من أحد فأوغر في قلوب البوذيين عليهم فأمدهم بالمال والسلاح ليقوموا بإبادتهم بالوكالة. بلد ليس كسائر البلاد بورما ليست سوريا والروهينغا ليسوا عرباً، أراكان ليست كقطعة أرض وطأتها قدماي. رأيت في الصومال من يموت جوعاً، وفي سوريا من يعيش بأطراف مبتورة من براميل الأسد، وفي غزة شاهدت من انهار منزله عليه بصاروخ المحتل الصهيوني فرأى أفراد أسرته كلهم موتى، وفي عرسال لبنان من كانوا أعزة في بلادهم وعلى الحدود يرجون منزلاً لا يُطردون منه. ممنوع من التربح مأمور بالشراء أكشاك متهالكة على قارعة الطرق للمخيمات يبيعون فيها مواد مخدرة وعصائر ملونة بألون اصطناعية وبعض الماء وحلوى مزيفة وبعض السمك، أصحابها ليسوا من الروهينغا، فهذا محرَّم بأمر الحكومة البنغالية، فقط من له حق البيع هم البنغال، أما الروهينغي فله فقط أن يشتري، إن كان يملك المال أصلاً. مياه غنية المياه متوافرة بكثرة هناك، من أراد أن ينهل منها فلينهل ما يشاء، فهي متوافرة بكثرة من الأمطار، ولكن.. هي مياه غنية بالمواد الطينية وحشرات الأرض والهواء، يَنهلون من بِرَك في بحر الطريق، يقومون بغليها ومن ثم الارتواء منها، مياه مختلف ألوانه من الأبيض والبني والأسود، ليس من بينهم الشفاف. الجيش البنغالي واللاجئون يكفر أفراد الجيش البنغالي بعقيدتهم العسكرية فيتناسون أمام منظمات الإغاثة والكاميرات ما يؤمنون به، ورغم هذا لا مانع من الاستغفار وشحن الإيمان باستخدام العصيّ في تأديب سكان المخيم وإجثائهم على رُكَبهم قعوداً في طوابير، فالوقوف حتى ممنوع وإن أردت أن تتقدم خطوة إلى الأمام -أيها اللاجئ- فلتتقدم وأنت "مقرفص" على ركبتيك حتى تصل إلى دورك. صورة رائعة مخيم من بعيدٍ، مميز بحوائطه التي هي أكياس بلاستيكية سوداء كتلك التي نستخدمها في جمع قمامة منازلنا، أصورها بعدستي فأجد الصورة رائعة بتكوينها المتضمن كثافة السحب وخضرة الطبيعة والشمس الخلابة و... وقليل من اللاجئين ومخيمهم ذاك، قال لي صديقي حين رأى الصورة: "إنت رايح عشان تنقل لنا المعاناة ولا عشان تحببنا في البلد". وخزة في الكاميرا في تلك الرحلة التي لم أشعر بها، عدت حيث أتيت وأنا في حيرة من نفسي وعدستي.. لا أدري، هل ذهبت للتوثيق، أم لنفسي ولأرشيفي، أم لنقل المعاناة، أم للمواساة؟! كل ما أتذكره أن 7 أيام من عمري ذهبت هناك، جزء من عقلي وقلبي بقي هناك ولم يعد معي، الصورة ليست تلك التي خرجت إليكم، الصورة هي تلك العالقة في ذهني والتي لا أظن أنني قلت منها شيئاً يُذكر في السطور السابقة.
مشاركة :