في معظم روايات صبحي فحماوي نجد أن للأطفال وللشباب نصيبا من المعاناة، فأطفال المخيمات لم يعيشوا كباقي أطفال العالم طفولتهم التي سلبها الاحتلال منهم، إذ وضعهم في ظروف صعبة، فصاروا يحاولون التأقلم مع واقعهم المرير، الذي يفتقد الرعاية الطبية، والأجواء النظيفة، ينهشهم الفقر بمخالبه، ويلسعهم برد الشتاء القارص، وتحرقهم شمس الصيف اللاهبة، ووسط هذا المكان الموبوء.. ففي روايته "حرمتان ومحرم" يقول: "لا يعودون قادرين على الوصول إلى مدارسهم، فيحتمون بتلال القمامة، فرحين بالانفلات المدرسي، والانفلات الأمني، والانفلات الغذائي، والانفلات الصحي"... إنها بيئة متعفّة تشكّل مرتعا للأمراض والأوبئة، وأجواء عكّرتها الروائح النتنة، ولكثرة الأبخرة المتصاعدة من تلال النفايات المحروقة، تنعدم الرؤية أو تكاد.." فلا يعودون يرون شيئا محددا، فتصفعهم ألواح صفيح متطايرة، تنسفها الرياح، ويزعق معها الخراب، فيردون لها الصاع صاعين، بالحجارة التي تنطلق بأي اتجاه، فتصيب، وقد لا تصيب، دبابة لئيمة حاقدة متحفّزة.." تجدهم يجاهدون في سبيل الوصول إلى مدارسهم، فالطرقات معادية لهم، والجو يطبق على رئاتهم، والعدو متربص بهم. وهنا استعان الروائي فحماوي بأدوات وأساليب فنية لإبراز معاناة أطفال المخيمات، إذ يبدأ المقطع بوصف حال الأطفال في ظل مناخ موبوء مشبّع بالسموم المنتشرة في فضاء المعسكر، وانعكاسه عليهم، الذين امتلأت رئاتهم بالدخان السام، وبالروائح النتنة المنبعثة من أكوام النفايات المبعثرة في كل مكان فيه، مستخدما التشبيه والانزياح لتجسيد المعاناة؛ (قطعتهم الطرقات... كست وجوههم طبقات من الرمال. . أبخرة القمامة السامة السابحة كالغيوم ـ فتصفعهم ألواح صفيح متطايرة ـ ويزعق معها الخراب). وهذه الانزياحات بثت الحركة وبعثت الحياة في الجوامد، مبرزة تآمرها مع العدو على هؤلاء الأطفال، مجسّدة معاناتهم والعقبات التي تعترض حياتهم فتقضي على طفولتهم، وتحوّلهم بفعل النكبات والأزمات إلى كبار يُلقى على كاهلهم الطري مسؤوليات يعجز عن حملها بعض الشباب والرجال، فهم مضطرون لمقارعة جنود الاحتلال والوقوف في وجوههم بكل شجاعة وتحد، يرمون دباباته بالحجارة وما يُتاح لهم. صيغ هذا المقطع بأسلوب تهكميّ ساخر، فالمعسكر منفلت في كل مجالات الحياة، لا أمن ولا أمان، ولا تعليم ولا صحة، كل شيء منفلت، بلا رقابة أو اهتمام إلا حدود المخيم المحاصرة، المقبوض عليها بقبضة صهيونية حديدية، تمنع الدخول أو الخروج إلا بموافقة أمنية أو تصريح، لا يحصل عليه إلا ذو حظ عظيم، (الانفلات المدرسي، والانفلات الأمني، والصحي، والمقاوم..) طفولة مغتصبة حرمت أطفال المخيمات من التمتع بها، أو عيشها. لقد سلب العدو طفولة أبناء غزة، وحرمهم من أشياء كثيرة، إذ ألقى على كاهل بعض الشباب والصبية مسؤولية إعالة عائلاتهم بعد استشهاد المعيل، أو سجنه، أو عجزه، فوحيد ذاك الشاب الذي استشهد والده على يد المحتلين ولم يتجاوز الثانية عشرة سنة اضطر إلى ترك المدرسة بعد أن أنهى الصف السابع قبل التهجير، وتحمّل مسؤولية والدته وإخوته الصغار، إذ لم يستطع العودة إلى المدرسة بعد الاحتلال "بل دار ظهره ليواجه المأساة الجديدة.. تركها ـ يا ويلي ـ ليتفرغ للعمل، حيث لا يوجد لوالدته الأرملة المسكينة أم وحيد وإخوته الصغار، مصدر رزق يعتاشوا منه، سوى هذه الأعمال الشاقة ـ الله يهدها ـ. . صار رغيف الخبز أولا، ومن بعده تأتي المدرسة.." فحُرم عدد كبير من جيل النكبة من التعليم واتجهوا مضطرين للبحث عن عمل. ومَن حالفه الحظ منهم وأتيحت له فرصة التعلم والذهاب إلى المدرسة، لم تخطئه المعاناة، ولم يشفع له التعلم، إذ كان الأطفال والصِبية يسيرون مسافات طويلة في طرق وعرة، صعودا وهبوطا للالتحاق بمدارس وكالة غوث اللاجئين، يقول السارد عن معاناة شهريار بطل رواية "الأرملة السوداء" ورفاقه: " وعند المساء تجدهم عائدين مثقلين بأحمال كتبهم، وهم مقبوضين خوفا من الانزلاقات المرورية في شوارع سحيقة الانحدار، يهبطون فيها وكأنهم ينزلقون من قمة جبل الألعاب الروسي لمدينة ملاه مجنونة تقذفهم من قمة الجبل السماوي إلى مقبرة مصدار عيشة، التي تتناثر شواهد قبورها هنا وهناك، مثل الفطر البري السام الذي ينبلج بصفرته من الأرض الرطبة عند قوس قزح". فوعورة الطرق وضيقها، والارتفاعات الشاهقة والمنحدرات السحيقة تضيف إلى معاناة الفلسطيني عذابات أخرى تجعل من حياته جهادا مستمرا من أجل البقاء، فأفراد المخيم معرّضون للخطر في كل دقيقة، إضافة إلى المعاناة الملازمة للأطفال في ذهابهم وإيابهم طلبا للعلم. أبرز الروائي بهذا الوصف معاناة أطفال المخيمات، الذين يتحمّلون المشقة والعناء في سبيل العلم والوصول إلى مدارسهم، رغم الخطر المحدق بهم. كما قرّبت التشبيهات المعنى وجسّدته، فتسلّقهم للمرتفعات الشاهقة كل يوم شبيهة بقمة جبل الألعاب الروسي، وقد اختار الروائي هذا المشبه به لإظهار حرمان الأطفال من تلك الملاهي التي يلهو فيها الأطفال، ويقضون أجمل أوقاتهم، وهنا تكمن المفارقة، وهذا الانتقاء ينم عن قدرة الكاتب ومهارته في الاختيار. إن مجرد وصف الفلسطيني بكلمة لاجئ تشعره بالإحراج، والقهر، ويجعل الآخرين ينظرون إليه نظرة دونية، كأنه لقيط، مما يعرقل الشاب الفلسطيني عن ممارسة حياته بشكل طبيعي ويجرحه، فهذه الكلمة شكّلت عائقا له، يقول السارد: " أنت أجبن من أن تقف مع فتاة، ليس لأن درب البنات شوك كما تقول جدتك أنيسة، بل لأنك تتوقع أن تسألك فتاتك: من أي حارة من طولكرم أنت؟ فتخزى أن تقول لها: أنا من مخيم. فلا تجد غير الكتاب تدفن رأسك فيه". لما لهذه الكلمة من أثر سلبي على نفسية اللاجئ. د. ماجدة صلاح - شيكاغو
مشاركة :