هناك للمرّة الاولى إدارة أميركية، ليست لديها عقدة ايران. تدرك هذه الادارة ابعاد ما تقوم به ايران على الصعيدين الاقليمي والدولي وحتّى داخل ايران نفسها، وما تمارسه في حق المواطن الايراني العادي الذي تخلّت عنه إدارة أوباما ابان «الثورة الخضراء». يكفي التمعن بمضمون الكلمة التي القتها قبل ايّام نيكي هايلي، مندوبة الولايات المتحدة لدى الامم المتحدة في جلسة لمجلس الامن للتأكّد من ذلك. بعدما اشارت هايلي، المعروفة بجرأتها، الى ان ايران ترسل أسلحة الى «حزب الله» في لبنان وسورية والى الحوثيين في اليمن وتهدد الملاحة الدولية وتقمع الشعب الايراني بكلّ مكوناته، اعتبرت ان «الحكم على ايران يجب ان يأخذ في الاعتبار (سلوكها العدائي ككلّ)». ركّزت على «ان عدم فعل ذلك يعتبر غباء». يبدو الكلام الذي صدر عن هايلي، سليماً وجميلاً الى أبعد حدود. لكنّه يمكن ان يتحوّل «غباء» في حال عدم الانتقال الى مرحلة ما بعد الكلام السليم والجميل في الوقت ذاته. في سياق كلامها السليم والجميل، تطرّقت هايلي، التي تعتبر من ابرز وجوه إدارة ترامب، الى تطوير الصواريخ الباليستية خصوصا الى انّ من الخطأ حصر التعاطي مع ايران من منطلق التزامها البنود الواردة في الاتفاق النووي وخطوطه العامة. قالت ان الاكتفاء بذلك يعني القبول بوجود كوريا الشمالية الثانية. ارادت ان تقول بكل بساطة ان ايران تتجه الى ان تكون كوريا شمالية أخرى. وتساءلت كيف يمكن القبول بذلك؟ من الملفت ان كلام هايلي جاء في سياق توجّه أميركي عام، تحوّل الى برنامج للإدارة ونهج لها. كان خطاب الرئيس دونالد ترامب في 13 أكتوبر الجاري إشارة انطلاق الى ان وجود نيّة للتصدي للمشروع التوسّعي الايراني الذي ما كان ليأخذ بعده الراهن لولا سقوط العراق في العام 2003. ما يمكن فهمه من الخطاب التاريخي للرئيس الاميركي، الذي يُخشى دائما من ان ينتهي كلامه بان يصبح مجرّد كلام، ان اميركا لا تعتبر الغاء الاتفاق في شأن الملفّ النووي معركتها. معركتها في تعديل هذا الاتفاق ليشمل أمورا أخرى من بينها «السلوك العدائي لإيران ككل» الذي تعبّر عنه ميليشياتها المذهبية المنتشرة في كلّ المنطقة والصواريخ الباليستية. مثل هذا التعديل لبنود الاتفاق، الذي لا يمكن ان تقبل به ايران نظرا الى انّه يجعل منها دولة طبيعية من دول المنطقة، يمكن ان يشكل قاعدة مشتركة بين الاميركيين والأوروبيين. هناك قلق أوروبي شديد من الصواريخ الباليستية ومن استمرار التجاهل للميليشيات المذهبية وخطورتها، وهي ميليشيات لا تقلّ وحشية وعدوانية عن «داعش». لم يكن سقوط العراق بحجة الانتهاء من نظام صدّام حسين سوى انطلاقة جديدة للمشروع التوسّعي الايراني الذي يستهدف تفتيت المجتمعات العربية الواحد تلو الآخر وصولا الى اليوم الذي تعقد فيه ايران الصفقة الكبرى مع «الشيطان الأكبر» الاميركي بموافقة «الشيطان الأصغر» الإسرائيلي في ظلّ تصفيق روسي وقبول تركي. هل لدى الإدارة الأميركية القدرة على استيعاب ذلك واستيعاب انّ ترددات الزلزال العراقي ما زالت تعمل فعلها في المنطقة الممتدّة من المحيط الى الخليج؟ في حال كانت الإدارة الأميركية جدّية في التعاطي مع ايران واعادتها الى حجمها الطبيعي، يُفترض بها عدم تجاهل ما آل اليه الوضع في لبنان. لا حاجة الى العودة سنوات الى خلف لاستعادة كيف زادت الهجمة الايرانية على لبنان منذ سقوط العراق. صحيح انّ ليس في الإمكان في ايّ شكل الدفاع عن نظام صدّام حسين وما ارتكبه في حقّ العراقيين واهل الخليج، خصوصا الكويت، لكنّ الصحيح أيضا ان الحرب الأميركية على العراق كانت أيضا حربا إيرانية. كانت طهران الحليف الوحيد لواشنطن في تلك الحرب التي انتهت بانتصار ايران وهزيمة اميركا على كلّ صعيد. لا لشيء سوى لانّ الهدف الاميركي من اجتياح العراق كان إقامة نظام جديد يكون نموذجا لما يجب ان تكون عليه الانظمة في المنطقة. فشل الاميركيون في ذلك. صار النظام الذي سعت ايران الى اقامته في العراق هو النموذج الذي يجري تصديره للمنطقة، وهو نظام الدولة الدينية الذي يقوم على اثارة الغرائز المذهبية قبل ايّ شيء. كان لبنان من الضحايا الاولى للفشل الاميركي في العراق. لم يكن التخلّص من رفيق الحريري مجرّد صدفة. بات في الإمكان قول هذا الكلام بعدما تكشّفت حقيقة من نفّذ الجريمة والظروف التي رافقت تفجير موكب الرجل الذي تحوّل زعيما وطنيا لبنانيا ذا امتدادات عربية ودولية واسعة. تبدو العودة الى لبنان ضرورية بين حين وآخر، ذلك ان البلد كان من بين المتضررين الأساسيين من المشروع التوسّعي الايراني الذي استطاع عزله عن محيطه العربي. من يتابع التطورات التي شهدها لبنان منذ اغتيال رفيق الحريري، لا يستغرب الحال التي يعيشها لبنان حاليا في ظلّ مخاوف من ان ينجح «حزب الله» في السنة 2018 في السيطرة على مجلس النوّاب في ظلّ قانون انتخابي، قائم على النسبية، قانون لا هدف منه سوى تشتيت الأحزاب والكتل التي وقفت مع مشروع السيادة اللبنانية. انهار هذا المشروع كلّيا مع منع مجلس النواب من انتخاب رئيس للجمهورية طوال ما يزيد على عامين ومع احتقار «حزب الله» الحدود اللبنانية ودخوله طرفا مباشرا في الحرب على الشعب السوري من منطلق مذهبي ليس الّا. من اين يمكن تبدأ الإدارة الأميركية في التصدي للمشروع التوسّعي الايراني. يمكن ان تبدأ من لبنان ومن سورية ومن العراق. ما ليس طبيعيا أي سكوت عن فتح الحدود بين سورية والعراق كي تصبح ممرا للميليشيات المذهبية والأسلحة التي تصدرها ايران الى سورية. ما ليس طبيعيا تضع ايران يدها على كركوك بواسطة «الحشد الشعبي» بعد الهزيمة التي لحقت بالاكراد نتيجة الحسابات التي قام بها مسعود بارزاني، وهي حسابات لم تأخذ في الاعتبار ان الإدارة الأميركية ليست في وارد دعم الاستفتاء الكردي في الظروف الراهنة وانّها لن تتصدى لميليشيات ايران في العراق. ما ليس طبيعيا ترك لبنان لمصيره، علما ان إشارات مشجعة صدرت أخيرا مرتبطة بضرورة وضع حدّ لهيمنة «حزب الله» على الأراضي اللبنانية وما بقي من مؤسسات الدولة. هناك للمرّة الاولى أيضا كلام عن خطورة هذا الحزب، بصفة كونه أداة إيرانية، ليس على لبنان فحسب بل على دول المنطقة أيضا، بما فيها الكويت. ورد هذا الكلام في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن تطبيق القرار 1701 الصادر عن مجلس الامن صيف العام 2006. لا يمكن الاستخفاف بهذا التقرير وما ورد فيه لجهة الفهم الجديد في الامم المتحدة لدور «حزب الله» على الصعيد الاقليمي في اطار المشروع التوسّعي الايراني. هناك استيعاب لما يعانيه لبنان نتيجة التغاضي عن المشروع التوسّعي الايراني وادواته. المسألة مسألة وقت فقط، يتبيّن بعدها هل ستكون هناك سياسة أميركية متماسكة تجاه ايران، سياسة تؤكد ان كلام هايلي ليس مجرّد كلام ينمّ عن وجود فريق عمل أميركي يعرف تماما ما هي ايران ويكتفي بالكلام السليم والجميل بدل الانتقال الى ما هو ابعد من ذلك.
مشاركة :