عندما يفكر أغلب المواطنين الأميركيين في الإرهاب المحلي، فإنهم ربما يفكرون في منفذ تفجيرات أوكلاهوما سيتي، أو المتعصبين للعرق الأبيض الذين يتخبطون في أحلام النازية القديمة، أو العنصريين الذين يضرمون النيران في كنائس السود، أو المهاجمين المنفردين من المرضى النفسيين مثل ذلك الموتور الذي أردى 59 قتيلاً في لاس فيغاس أول الشهر الحالي.ولكنهم لا يفكرون أبداً في مكتب التحقيقات الفيدرالي. فإنه كمثل التفكير خارج نطاق المربع الضيق للغاية.وفي تقرير لم يكن من المفترض أن يخرج للعلن، غير أنه وجد طريقه إلى الإنترنت في 6 أكتوبر (تشرين الأول) عبر موقع «foreignpolicy.org»، خلصت شعبة مكافحة الإرهاب في المباحث الفيدرالية الأميركية إلى وجود تهديد حقيقي من حركة «الهوية السوداء المتطرفة».ويقول التقرير، إن «تصورات حركة الهوية السوداء المتطرفة بشأن الوحشية التي تنتهجها الشرطة الأميركية ضد الأميركيين الأفارقة، كانت المسؤولة عن زيادة مستويات العنف المتعمد والانتقامي ضد وكالات إنفاذ القانون، ومن المرجح للغاية أن تكون مبرراً لأعمال العنف من هذه النوعية».ولكن انتظر قليلاً، ما هي بالضبط حركة الهوية السوداء المتطرفة؟ والإجابة هي: لا شيء البتة.إنها ضرب من الخيال، كما قال البعض وبقوة، ومن بينهم أندرو كوهين، الزميل البارز لدى مركز برينان للعدالة.غير أن هذه الإجابة لا تجعل من التقرير المذكور أقل عدائية. وكما أشار السيد كوهين، فإن للمباحث الفيدرالية «تاريخاً من المراقبة وترهيب المواطنين الأميركيين الأفارقة، الذي في المعتاد يذهب إلى ما هو أبعد من إنفاذ القانون بالوسائل المشروعة وإلى حد جنون الارتياب، والعنصرية الفجة، والنفعية السياسية القميئة».وسعت وثيقة المباحث الفيدرالية جاهدة لإثبات أن الممارسة المجردة للحقوق الدستورية بالتظاهر والاحتجاج وحتى «التبني الخطابي» لتكتيكات العنف قد لا تشكل حالة من حالات التطرف. بيد أن الخطر - أو حتى الهدف - يكمن في أن حركة العدالة العرقية برمتها موصومة باتهامات الإرهاب.وفي المرة المقبلة التي يظهر فيها عمل من أعمال العنف من قبل الأميركيين الأفارقة ضد قوات الشرطة المحلية، فعليك بإلحاق نفسك إلى إعلام اليمين المتطرف، أو النائب العام الأميركي، أو المدير التنفيذي لموقع «تويتر» لانتهاز الفرصة والاستفادة من عبارة «الهوية السوداء المتطرفة».ولقد حدث ذلك بالفعل. فلقد استخدمت شبكة «فوكس نيوز» وبإلحاح شريط الفيديو لاحتجاجات «حياة الأفارقة مهمة» كخلفية للتغطية الساذجة التي وفرتها للتقرير المذكور بعد نشره.والتقرير يعقد مقارنة حتمية بين عمليات «كوينتيلبرو» سيئة السمعة ضد النشطاء الأفارقة في القرن الماضي. ولكن من غير المنصف القول إن مكتب التحقيقات الفيدرالي لم يحرز أي تقدم منذ أوامر المدير الراحل جيه. إدغار هوفر للمكتب بـ«تعطيل، أو تشويه سمعة، أو بخلاف ذلك تحييد» ما وصفها بأنها «المنظمات القومية السوداء التي تحض على الكراهية».إن لغة الوثيقة الجديدة هي أكثر احتراساً. بيد أن المشاعر تقشعر لها الأبدان.و«يخلط التقرير بين النشطاء السياسيين الأفارقة، والمنظمات الإرهابية المحلية الخطيرة التي تشكل تهديدات حقيقية لإنفاذ القانون»، على نحو ما أفاد تجمع أعضاء الكونغرس الأفارقة في خطاب مرسل، بشأن الاجتماع مع مكتب التحقيقات الفيدرالية.وقالوا في الخطاب المرسل: «يعتمد التقرير على عدد قليل من الحوادث المريعة لوصم الأميركيين الأفارقة، الذين يمارسون حرية التعبير ضد الوحشية التي عاينوها من الشرطة، باعتبارهم متطرفين عنيفين محتملين». (في إشارة إلى ست حوادث منذ عام 2014 قالت المباحث الفيدرالية خلالها إن تهديد الهوية السوداء كان وراء الهجمات الموجهة ضد ضباط الشرطة، بما في ذلك حادثة إطلاق النار البغيضة ضد 11 ضابطا للشرطة أودت بحياة خمسة منهم في مدينة دالاس بتاريخ 7 يوليو/ تموز عام 2016).وترسم المباحث الفيدرالية خطاً واصلاً بين حادثة مقتل ضابط الشرطة مايكل براون في فيرغسون بولاية ميسوري عام 2014 وجميع الحوادث الأخرى، وتحذر من «زيادة» في حالات العنف ذات الخلفية الآيديولوجية ضد قوات الشرطة.كما يرسم التقرير كذلك خطاً رابطاً بين نشطاء الستينات والسبعينات بالقرن الماضي و«المتطرفين» الحاليين. والتهديد الأسود، كما ذكر التقرير، كان خاملاً طيلة تلك الفترة بكل بساطة.بيد أنه ليست هناك رابطة حقيقية بين الموقفين. ولقد أخفقت المباحث الفيدرالية حتى في إثبات وجود أي صلة حقيقية بين الحوادث الست المشار إليها.ويتصرف واضعو التقرير كما لو كانت هناك شكوك بشأن العنصرية المؤسساتية في الولايات المتحدة، وبين بعض من ضباط الشرطة في البلاد. (غير أنني لا أتهم جميع ضباط الشرطة من البيض بأنهم عنصريون).وتحدثت وثيقة المباحث الفيدرالية حول «المظالم المتصورة ضد الأميركيين الأفارقة»؛ وهي المظالم الواضحة للعيان ولكل شخص يعنيه الأمر على وجه فعلي.وقالت شعبة مكافحة الإرهاب، إنها «تعتبر» احتمال أن العنف ضد الشرطة غير مدفوع بشبح الهوية السوداء المتطرفة، غير أنها قررت أن هذا الاحتمال «من المستبعد للغاية».وقبل خمسين عاماً، تجسس مكتب التحقيقات الفيدرالي تحت قيادة إدغار هوفر على زعماء حركات الحقوق المدنية، بمن في ذلك مارتن لوثر كينغ الابن. كما تعمد المكتب تلفيق خطابات مزورة لخلق حالة من الاحتكاك بين الحركات السوداء المتنافسة، الأمر الذي أدى إلى حادثة إطلاق النار في جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجليس عام 1969 التي أودت بحياة مواطنين اثنين. وكان ضباط الشرطة السرية مسؤولين عن تلفيق التهم إلى 21 عضواً من حركة الفهود السوداء للتآمر بتفجير قنبلة وهمية في نيويورك عام 1969 أيضاً. والقائمة تستمر وتطول.وهناك منحدر زلق بين هذا النوع من تقييم الذكاء وأعمال القمع. ولقد سقط مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى أسفل هذا المنحدر من قبل. ويجب ألا يُسمح له بمعاودة السقوط إلى تلك الهوة مرة أخرى.* خدمة «نيويورك تايمز»
مشاركة :