لا يخفى أنّ الكتابة ضدّ التيّار تحتاج قوّة وجرأة وصمودا وقناعة وإيمانا من صاحبها الذي يمعن في التشبّث بحرّيته واستقلاليّته، ولا يرضى بالانصياع لأيّ فرض أو التقولب في إطار أيّ تيّار جارف.العرب هيثم حسين [نُشر في 2017/10/23، العدد: 10790، ص(15)] كثيرا ما يتكرّر توصيف الكتابة ضدّ التيّار أثناء الحديث عن اجتياح تيّارات أدبيّة أو ثقافيّة مرحلية ما، أو سيادة سياسات وتوجّهات تنحو بالأدب والفكر هذا المنحى أو ذاك، ويكون التيّار بالعادة قويّا لدرجة أنّه قد يجرف معه كثيرين ممّن ينساقون وراء ضجيجه أو يذعنون لقوّته وسطوته فيتبعون أملأً في إطالة أعمارهم الافتراضية، أو في إعادة التجديد إليهم، أو الحظوة ببعض البريق المأمول. هناك موجات متجدّدة تكتسح عالم الأدب بين الحين والآخر، وقد تلعب الجوائز دورا في تسييد موجة أدبية على حساب أخريات، أو تأجيجها ودفع الأدباء للهاث وراءها، أملاً في الحصول على بعض الامتيازات التي توفّرها أو المنافع التي يمكن التحصّل عليها حين تلبية نداء الموجة غير المعلن. مَن يختار الكتابة ضدّ التيّار؟ هل يفترض بمَن يمضي مستقلّا بذاته أن يشكّل تيّاره الخاصّ به أم أنّه باختياره دربه متحدّياً التيّار، ومنعتقاً من إهابه، يمنحه هامش التحرّر والاستقلاليّة ويمكّنه من صياغة عالمه بعيداً عن أيّ فروض أو إملاءات؟ في كتابه السيريّ “الكتابة والحياة” اختار الروائي والباحث العراقي علي الشوك (1930) الكتابة ضدّ التيار، والذي يصفه متأسفاً بأنه أصبح كاسحاً، وحتى ضدّ بعض المشاعر الصديقة، وأنّه قد يجرح مشاعر أشخاص لديهم قناعة راسخة قد يعتقدون أنّه يهزّها، لكنّه يكتب ما يسمّيها باعترافاته عن قناعته الشخصية، وإيمانا منه بأنّ الاعتبارات لم تعد لها أهمّية في ما يصفه بعالمنا القياميّ هذا، وينوّه كذلك إلى أنّ ما يكتمه أكثر بكثير ممّا يبوح به. افتتح الشوك سيرته بالتأكيد على أن الرواية كانت هاجسه الأكبر طوال حياته، وعلى مدى علاقته بالكتابة. وأنه حين اتخذ قراره في أن يصبح كاتبا، لم يفكّر في كتابة أي شيء سوى الرواية، وأن الكتابة عنده كانت تعني القصة أو الرواية. وتراه مراجعا حقبة يتداخل فيها التاريخ الشخصي بتاريخ بلاده والعالم من حوله، ولا سيما أنه تنقل بين عدد من المدن في الشرق والغرب وعاصر كثيرا من الأحداث الهامة والشخصيات الفاعلة المؤثرة. يمكن أن يستشفّ القارئ من اعتراف الشوك وتأكيده على قول ما يؤمن به بعيدا عن أيّ اعتبار أنّه يواجه بعض مَن هادنهم في مراحل سابقة، أنّه يواجه التيّار ويكتب ضدّه، لا يبتغي امتيازات شلل التيّارات والموجات، وتكون إشارته المثيرة عمّا يكتمه، وكأنّي به يتفادى الخوض في جراح التاريخ، ويؤثر عدم تجريح مَن قد يقرأ في طيّات كلماته وبين سطوره نقدا لشخصه أو دوره في مرحلة ما من تاريخه المتقاطع مع الكاتب. لا يخفى أنّ الكتابة ضدّ التيّار تحتاج قوّة وجرأة وصمودا وقناعة وإيمانا من صاحبها الذي يمعن في التشبّث بحرّيته واستقلاليّته، ولا يرضى بالانصياع لأيّ فرض أو التقولب في إطار أيّ تيّار جارف. كاتب سوريهيثم حسين
مشاركة :