مات في العراء وحيدا: اعترافات تولستوي

  • 10/24/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تشكل "اعترافاتي" للروائي الروسي العظيم تولستوي رحلة حقيقية في الحياة بحثا عن إجابات لكثير من الأسئلة الوجودية، إنها عمل كبير بحق يضيف كثيرا إلى كتب السيرة الذاتية وأدب المذكرات، وقد ترجمت أكثر من ترجمة وطبعت أكثر من طبعة، آخرها الترجمة التي نشرتها دار أقلام عربية وتعد واحدة من أبرز الترجمات، حيث قدم لها المترجم محمود محمود برؤية مضيئة لرحلة حياة تولستوي في مرحلة بعد طلاقه الأدب وتحوله إلى البحوث الدينية ثم الفلسفة ثم الثوري الاجتماعي. ليخلص إلى أن تولستوي كان مثالًا يُحتذى في قوله وفعله، ونال من الشهرة أقصاها، ولم يحاول أن يستغل نفوذه في الوصول إلى مناصب الحكم، وإنما خصصه للخدمة الإنسانية جميعًا؛ ولم يُخضع كفاحه لخلق عالمٍ جديد إلَّا لسلطة واحدة على الأرض: هي سلطة الضمير الذي يهتدي إلى الحق ويسلك إليه سواء السبيل. يبدأ محمود محمود رؤيته من مرحلة انتقال تولستوي إلى البحوث الدينية، موضحا أن ترجنييف - وهو من أعلام الأدب الروسي الحديث – كان يعجب بتولستوى أشد العجب، ويعده أعظم كاتب أنجبته روسيا منذ أول التاريخ. إلى أن هجر تولستوى الأدب المحض، واتجه إلى البحوث الدينية الغامضة. حينئذٍ أشفق ترجنييف على هذه الموهبة العظيمة أن تنطفئ شعلتها، وساءه أن تخلو مكتبة هذا الأديب الفحل – الذي أصاب في تصوير الطبيعة والإنسان ما لم يصب أحد من قبل – من كل كتاب سوى الإنجيل وبعض الرسائل الدينية. ولَشدَّ ما كان يخشي ترجنييف أن يبذل تولستوى خير سنيّ إنتاجه في التأملات الدينية. وألمَّ المرض بترجنييف، وأقعده عن الحركة والعمل، ولكنه رغم ما كان يعاني من ألم، أمسك بقلمه، ودبَّج رسالة حادة إلى صديقه الأديب العظيم نابغة الروس، رسالة – كما وصفها ترجنييف نفسه – لا تنبعث إلَّا من قلب مخلص ليس بينه وبين القبر إلَّا قيد خطوات. وقد ألحَّ ترجنييف على صاحبه أن يهجر الفلسفة والدين، وأن يرتد إلى الأدب الخالص فهو ميدانه الذي يبزّ فيه كل قرين. ولكنَّ تولستوى لم يعر هذه الصيحة المنبعثة من فراش المرض أذنًا مصغية، ولم يجب على الرسالة في حينها. ومرت الأيام، وهمَّ تولستوى بالكتابة إلى صاحبه، ولم يكد يتم كتابه حتى فاضت روح تورجنييف. وفي الحق إنه كان شديدًا على تولستوى أن يستجيب لدعوة صاحبه، وأن يعود إلى الأدب، لأنه لم يسلك طريق الدين ترفًا أو غرورًا، بل قد أحس كأنه ينساق إلى تلك الطريق انسياقًا، وينحدر إليها بغير إرادته وهو راغم. لا نشك أن تولستوي تحوَّل إلى التأمل والنظر الديني راغبًا أو عامدًا، ولكنه أصيب بصدمة نفسية مفاجئة، صدمة ارتعدت منها فرائصه واهتز لها كيانه، وأخذ من هولها يلتمس له دعامة تسنده فلا يضطرب، ويطمئن إليها فلا يهوي. ويلفت إلى أن هذه الأزمة النفسية حلت بتولستوى وهو في نحو الخمسين من عمره. وهي أزمة لا نستطيع أن نصفها، ولا نستطيع أن نردها إلى سبب بعينه؛ فقد كان الرجل يعيش عيشة لا تؤدي في ظاهرها إلى ضيق، ولا تؤدي إلى حرج، وواتته حينئذٍ كل عوامل الحياة السعيدة، وتوافرت له كل أسباب النعيم. وكاد أن يقف في بيداء الحياة لا يبدي حراكًا. وكثيرًا ما كان يسائل نفسه: "ماذا دهاني؟ ما هذه الكآبة التي اعترتني بغير سبب؟ ما هذا التبرم، وما هذا الانزعاج؟ إني لم أعد أجد في الحياة متعة، أو أشعر فيها بما يهزُّ مني الحس والعاطفة. لقد باتت زوجي غريبة عني، وتخلَّي عني أبنائي غير آبهين. وأمسى العمل إلى نفسي بغيضًا ممجوجًا". المرحلة التالية للدين كانت الفلسفة يوضحها محمود محمود "لمَّا اشتد بصاحبنا القلق تساءل جزعًا: "لعلِّي لم أعش كما كان ينبغي أن أعيش" وشرع يختبر نفسه كل يوم، ويفكر في معنى الحياة، وكان ينشد الحقيقة ويغوص لُجَّةَ الفلسفة لا عن لذة طبيعية في التأمل أو عن تشوف عقلي، ولكنه أراد أن يتقي اليأس، وأن يخلص من هذا القنوط. ومن ثمَّ سار – كما سار باسكال- على هامش الفلسفة ولم يضرب في صميمها؛ وبمكتبة موسكو وثيقة بخط يده بقيت من هذا العهد الحائر يقول فيها: "هناك مسائل مجهولة ينبغي لي أن أجيب عنها، وتلك هي: لماذا أعيش؟ وما السبب في وجودي؟ وما هو الغرض منه؟ وما معنى هذه التفرقة بين الخير والشر التي أحس بها في دخيلة نفسي؟ وكيف ينبغي أن أعيش؟ وما الموت؟ وأين سبيل الخلاص؟" ولكنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة كانت فوق العمل الأدبي الذي ألف، فاضطر إلى ممارسة الفلسفة اضطرارًا، واشتغل بها ثلاثين عامًا بعد ذلك؟". ويرى محمود محمود أن تولستوى لم يكن من قبل شاكًّا، بل كان يعيش ظاهرًا وباطنًا عيشة هادئة حرة أبيقورية، كلها نشاط وكلها عمل، ولما انقلب إلى الفلسفة مفاجأة أخذ يقرأ الثقات في الموضوع، ويتعرف إلى آرائهم في نشأة الإنسان وفي الغرض من حياته؛ وشرع يقلِّب صفحات الكتب الفلسفية ذات المنازع المختلفة، ويستطلع آراء أفلاطون وكانط وشوبنهور وباسكال، لعله واجد فيها للحياة معنى. ولكنَّ الفلسفة والعلم كليهما لم ينتهيا به إلى غاية، وقد أسف تولستوى أشد الأسف إذ تبيَّن أن آراء هؤلاء الحكماء – كما يقول - "واضحة جلية دقيقة عندما تبتعد عن مشاكل الحياة المباشرة، ولكنها لا تهدي الحائر إلى سبيل، ولا تبعث الطمأنينة إلى القلوب الضالة القلقة، وكلها يقصر دون سؤالي الذي طالما حرت فيه، وذلك هو: لماذا نحيا؟ وهنا ـ كما يشير محمود محمود ـ ينتقل تولستوى إلى المرحلة الثالثة من حياته، فقد طلَّق الأدب أولًا، وطلَّق الفلسفة ثانيًا، ثم توجه إلى الدين لعلَّه يجد فيه هداه. تنكرتْ له المعرفة فأخذ يبحث عن عقيدة، وازورَّ عنه العقل فمال إلى القلب. وفي هذه المرحلة التي تشتت فيها ذهن تولستوى لا نراه ينتمي إلى عقيدة بعينها أو يبتدع رأيًا جديدًا لم يسبقه إليه أحد، ولم يفكر في الثورة على الدين السائد، وإنما أراد أن يلتمس طريقًا وهدفًا لنفسه الحائرة كي يعيد إلى روحه دعتها وطمأنينتها. أراد أن ينقذ نفسه من حيرتها لعله يجد معنى لحياة ليس لها في ظاهر الأمر معنى، ولم يخطر له حتى آنئذٍ أن يعلن على المسيحية القديمة التقليدية ثورته، بل إنه ليعاود الزُّلفى لدى الكنيسة ويخضع لها ولقانونها، ويتعمق دراسة الكتاب المقدس. وفي هذا الدور وقع له ما يقع لكل باحث وراء الحق حائر، فقد لمس ما أصاب أوامر الدين ونواهيه من إهمال، وأدرك أن ما تُعلمه الكنيسةُ الروسية من تعاليم المسيح دخيل على المسيحية مضاف إليها. فرأى أن من أولى واجباته أن يفسر معنى الإنجيل الحق، وأن يعلِّم الناس هذه المسيحية الجديدة خالصة من كل لبس أو غموض. ثم أمسى بعد ذلك تولستوى الباحث قسًّا، وبات القس مبشِّرًا بدين جديد. وأخذ يأسه الشخصي يتخذ صورة عقيدة جديدة ثابتة، وإصلاح خُلقي، وقاعدة يقوم عليها كيان الجماعة. واستحال سؤاله الأول الذي طالما أزعجه وهو: "لماذا نعيش؟ وكيف ينبغي أن نعيش؟" إلى جواب صريح وهو: "هكذا ينبغي أن نعيش". ولكنًّ هذا الموقف لم يعجب الكنيسة الأوربية ـ يضيف محمود محمود ـ لذا فقد صادر أولي الأمر (اعترافاتي) وهو أول كتاب لتولستوى عن المبادئ العامة، ولم يسمحوا له بالذيوع والانتشار، وصادر مجمع القساوسة المقدس كتابه الثاني (عقيدتي). وترددت الكنيسة طويلًا قبل أن تتخذ الخطوة الحاسمة الفاصلة احترامًا للكاتب العظيم، ولكنها اجترأت آخر الأمر وقررت أن تحرم الرجل من رحمة الكنيسة، لأن تولستوى بدأ يهز أساس الكنيسة والدولة والنظام. ويلفت إلى اشتداد العداوة بين الرجل وأصحاب النفوذ، ذلك أن "تولستوى لم يدرك بادئ الأمر كل هذه المشاكل المعقدة التي تقوده إلى بحوثه. ولم يرتدع عن نقد الحكومة ونقد الكنيسة. وتفقَّد أبناء الروسيا آنئذٍ فهداه الرأي إلى أن عدم المساواة في الشؤون الاجتماعية، والتباين بين الفقراء والأغنياء، وبين الترف والبؤس، هو العلة الكبرى والداء الوبيل. وتبيَّن له من نقده لنفسه ذلك الظلم الشديد الذي كان يصدر عن زملائه أبناء الطبقة الرفيعة. وأخذ على نفسه أن يرد هذا الظلم بكل ما وسع من قوة، وأن يحرر الشعب من كل عسفٍ وحيف. وقد مرَّ بموسكو ذات يوم فشهد عن كثبٍ ذلك الحاجز العظيم بين حياة الغني وحياة الفقير، فأصدر كتابه "ماذا نفعل؟" يصور فيه هذه الزيارة الأولى لعاصمة الروسيا، وما شهد من بؤس الجماهير في هذه المدينة العظيمة. فحاول أن يحدَّ من البؤس بالمنح والهدايا، وبعطفه على الفقير وحبه له. ولكنه سرعان ما أدرك عبث هذه الجهود الفردية، كما أدرك أن المال وحده لا يصلح لقلب حياة هؤلاء البائسين؛ إن أردنا أن نرفع مستوى العامة وجب علينا أن نعيد بناء المجتمع. ويقول تولستوى في هذا: "إن بين الغني والفقير حائلًا من التعليم الزائف. وقبل أن نمد أيدينا لمعونة الفقير ينبغي أن نرفع المعاول ونهوي بها على هذا الحائل القائم. إني لم أعد أشك في أن الثروة هي السبب الحق في بؤس العامة وشقائها". ويشدد محمود محمود أن الكاتب كان يعتقد أن بالبناء الاجتماعي الراهن خللًا وصدوعًا، وأن من واجبه أن ينبه مواطنيه إلى مواطن الخلل والضعف، وأن يعلِّم الناس ويحذرهم ويبين له سعة الهوة بين طبقة وأخرى. وكان في الواقع يرمي إلى ثورة خلقية نفسية لا إلى ثورة دموية هدَّامة. كان يرمي إلى ثورة في العقائد تؤدي إلى المساواة بين الطبقات، وكان يريدها ثورة تقوم على الضمير، وتتم بتنازل الأغنياء طوعًا عن ثرواتهم، وتخلِّي الكسالى الذين لا يعملون عن بطالتهم، وتنتهي بتقسيم العمل تقسيمًا جديدًا. فلا يغِير أحد على أحد، ويتساوى الجميع في الحاجات. ومن ذلك الحين بات أديبنا يرى الترف سمًّا زعافًا في جسم الجماعة، سمًّا يجب اقتلاعه للتسوية بين الناس أجمعين. ومن هذه العقيدة بدأ تولستوى يهاجم الملكية أشد ما هاجمها كارل ماركس، ومن أقواله فيها: "إن الملكية اليوم أساس لكل شر، فهي تسبب الألم لمن يملكون ومن لا يملكون على السواء، وهي – بالضرورة - تؤدي إلى النزاع بين الأغنياء والفقراء". ويرى محمود محمود هنا أن تولستوى انقلب من باحث ديني إلى فوضوي ثائر. أخذ الآن ينادي بملء فيه أن من واجب كل فرد ذكي عاقل على شيء من مكارم الأخلاق أن يقاوم الدولة إذا طلبت إليه ما ينافي "العقيدة المسيحية"، كالخدمة العسكرية أو القتال. ولا يرى تولستوى أن تكون هذه المقاومة بالقوة والسلاح، وإنما تكون بالعداء السلبي وعدم التعاون. ومن رأيه أن لا يستغل أقوياء الأمة ضعفاءها فيسخروهم في أعمال لا تعود عليهم بطائل. والرجل الشريف عنده مَن يفكر ويعمل، لا فيما يقتضيه الوطن وإنما فيما تقتضيه الإنسانية بأسرها. ولا يني تولستوى عن الإشارة إلى حق الفرد المقدس في أن يعمل ما يوحيه إليه ضميره، لا ما تمليه عليه الدولة، وأن لا ينفذ للدولة أمرها إن شذَّت عن قواعد الأخلاق. ونصيحته لكل مسيحي مؤمن ألَّا يؤيد الدولة الظالمة، فلا يحتكم إلى قاضٍ، ولا يقبل وظيفة في الدولة حتى لا يفسد قلبه ويبقى نقيًّا طاهر الذيل. ويقول "وفي اللحظة التي ينتقل فيها تولستوى من التشخيص إلى العلاج، في اللحظة التي لا يكتفي فيها باتهام النظام الاجتماعي الحاضر وإنكاره، بل يتعدى إلى اقتراح يقدمه لإصلاح الجماعة البشرية. ومجمل الرأي عند تولستوى أن التسوية الاجتماعية ينبغي ألَّا تبدأ من أسفل كما يريد الثائرون حينما ينادون بانتزاع الملك من مالكه بالعنف والقوة؛ وإنما يجب أن تبدأ من أعلى بتنازل تلقائي من جانب الأثرياء والأغنياء. وكانت هذه الرسالة فاتنة جذَّابة في بلد كالروسيا بلغ التناقض فيه بين طبقة وطبقة حدًّا بليغًا. وكان تولستوى قويًّا شديدًا، فرغب كثير من أهل روسيا في الأخذ بنظريته الاجتماعية. وحاول بعضهم بالفعل أن ينقل هذا الرأي الجديد من عالم القول إلى عالم العمل بتأسيس مستعمرات لا يكون للملكية أو العنف فيها أثر. ولكنَّ هذه المحاولة باءت بالفشل، ولم يفلح تولستوى في إقامة مبدئه الجديد حتى في بيته وبين أهله وذويه، وحاول أن يوفق بين حياته الخاصة وبين نظرياته، فتنازل عن حبه للصيد، ولم يأكل اللحم إشفاقًا على الحيوان، ولم ينتقل بقطار أو سيارة، ودفع كل ما درَّه عليه قلمه من ربح إلى جمعيات الإحسان، وأخذ يَفلح أرضه بنفسه، وارتدي ثيابًا خشنة، وعمل حذاءه بيديه. ويخلص محمود محمود إلى أنه رغم هذا لم يستطع أن يصد تيار المعارضة الشديد، حتى بين أفراد أسرته وأعزائه. فقد أنكرته زوجته؛ ولم يرض أبناؤه أن ينشأوا كما ينشأ الفقراء والمال لديهم وفير؛ وظنوا بأبيهم مسًّا أو ضربًا من الجنون. وأخذ الكتَّاب والأدباء يعارضون رأيه في الملكية ولم يعترف له أحد من معارفه أنه يعيش عيش المسيحي المؤمن. وقد أدرك تولستوى نفسه في نهاية الأمر – كما يتبين من مذكراته اليومية- أنه فشل في بث أفكاره بين الناس، وأن آراءه لا تصلح للانتشار. ولم يثابر هو نفسه على العيش وفقًا لمبدئه. وقد جاءت في مذكراته هذه العبارة: "أي تولستوى! هل أنت تعيش وفقًا لعقيدتك؟ كلَّا. إني لأموت خجلًا من نفسي، وإني لآثم أستحق الازدراء". ولمَّا بلغ الرجل الثالثة والثمانين أحس بالموت يدنو منه، ففر من بيته ليلًا، وطفق يهيم على وجهه حتى مات في العراء وحيدًا مخيَّب الرجاء في نظراته وآماله. • مقتطفات من الاعترافات إن العقائد الدينية لا تلعب دورًا في الحياة أو في صلات الناس الاجتماعية ولا يحسب المرء لها حسابًا في حياته الخاصة. فهي لا تتصل بالحياة ولا ترتبط بها. فإن صادفتك مرة صادفتك كظاهرة خارجية منفصلة عن الحياة تمام الانفصال. يستحيل عليك أن تحكم على الرجل من حياته وسلوكه إن كان مؤمنًا أو غير مؤمن. وإذا كان ثمة خلاف بين الرجل الذي يعترف بإيمانه جهارًا وبين الرجل الذي ينكر الإيمان. فإن هذا الخلاف ليس في صالح المؤمن. فإن ممارسة الدين والاعتراف به كان وما يزال شائعًا بين الأغبياء والقساة والمتكبرين. وكثيرًا ما تجد المقدرة والأمانة والثقة وكرم الطباع وحسن السلوك بين الكافرين. *** وهكذا عشت ست سنواتٍ أخرى مسترسلًا في هذا الجنون حتى تزوجت. وفي خلال تلك الفترة رحلت إلى الخارج. وقد قوَّت الحياة في أوروبا وتعرّفي إلى القادة ورجال العلم فيها يقيني ـ الذي آمنت به ـ بضرورة الجهاد في سبيل الكمال. فقد وجدت أن هؤلاء الرجال يعتنقون هذه العقيدة عينها، وقد اتخذت هذه العقيدة في نفسي الصورة العادية التي تتشكل بها في أذهان الكثرة الغالبة من المتعلمين في عصرنا. كانوا يعبرون عنها بكلمة "التقدم"، وقد بدا لي حينئذٍ أن لهذه الكلمة معنى. ولم أدرك بعد أني – وقد أرَّق جنبيَّ هذا السؤال: ما هي أحسن حياة أحياها؟ وهو السؤال الذي يوجهه كل حي – لم أدرك أني حين أجيب عن هذا السؤال بقولي "عشْ مسايرًا التقدم" إنما أنا كالرجل في السفينة يدفعها الموج والريح إذ يجيب عن هذا السؤال "إلى أين ندفع الفُلك؟" - وهو السؤال الوحيد المهم الذي يشغله - بقوله "إن السفينة تسير بنا إلى مكان ما". فواصلتُ الكتابة أبث بين السطور ما كنت أعتبره الأمر الوحيد الصادق: وهو أن يحيا المرء لكي يظفر بأكثر ما يستطيع لنفسه ولأسرته. هكذا عشت. ولكن منذ خمس سنوات حدث لي أمر عجيب جدًّا. كانت تمر بي في مبدأ الامر لحظات من الحيرة والارتباك في الحياة، كأني لم أعرف كيف أعيش أو ماذا أعمل. وأصابني الخور والاكتئاب. ثم انقشعت هذه السحابة المظلمة، وواصلتُ العيش كما كنت أفعل من قبل. ثم عاودتني لحظات الحيرة أكثر من ذي قبل. وكانت تتخذ دائمًا صورة واحدة، وأرَّق جنبيَّ هذا السؤال: لماذا كل هذا؟ وإلام يؤدي بنا؟ *** روي في الأساطير الشرقية من زمان بعيد أن وحشًا هائجًا أدرك رجلًا مسافرًا في البيداء. واستطاع المسافر أن يفر من الوحش ولكنه وقع في بئر جافة، ورأى في أسفل البئر أفعى فتحت فكَّيها لتلتهمه. ولم يجرؤ المسكين أن يخرج من البئر خشية أن ينقض عليه الوحش الكاسر. ولم يجرؤ أن يقفز إلى قاع البئر خشية أن تلتهمه الأفعى، فأمسك بغصن نما فى شق بجدران البئر وتعلَّق به. وكلت يداه، وأحس أن لا بد له من أن يستسلم إلى الهلاك الذي ينتظره في أسفل البئر أو أعلاها، ولكنه ما فتئ يتعلق بالغصن ثم رأى فأرين، أحدهما أبيض والآخر أسود، يدوران بانتظام حول ساق الغصن الذي تعلَّق به ويقرضانه قرضًا. ولا بد للغصن أن ينكسر بعد فترة قصيرة فيسقط بين فكيِّ الأفعي. رأى المسافر ذلك وأدرك أن لا مناص له من الهلاك. وتلفت حواليه وهو لا يزال متعلقًا بالغصن فرأى بضع قطرات من العسل فوق أوراق الغصن، فمد إليها لسانه ليلعقها. وهكذا تعلقتُ بغصن الحياة وأنا أعلم أن أفعى الموت تنتظرني ولا مفر منها.   محمد الحمامصي

مشاركة :