داخل دار خدمات ملحقة بمسجد، شمالي القاهرة، تكسو عشرات الوجوه تعبيرات بضيق الحال، ممزوجة بفرحة الظفر بوجبة "مجانية"، لن تكلفهم سوى كلمة "شكراً". المشهد المتكرر لساعتين يومياً طوال الأسبوع، باستثناء الجمعة، هو تجربة خيرية تعرف باسم "بيتنا"، حيث يُهدِي الفقراء وجباتٍ بلا مقابل، لمواجهة قفزة الأسعار، التي أعقبت تحرير سعر صرف العملة المحلية، منذ عام، إلى جانب ارتفاع أسعار الوقود التي أثرت بدورها على أسعار السلع والخضراوات والفواكه. أشبه بالبيت، كان مطعم "بيتنا"، يضم 15 طاولة، ويستوعب أسراً كاملة، ورغم الزحام الشديد، لكنه لم يتخلَّ عن الهدوء والسكينة. ويستوعب المطعم نحو 204 أشخاص يومياً، يحصلون على وجباتهم بعد إظهار بطاقات صادرة لهم من إدارة المطعم، تفيد بأحقيتهم في الوجبات، بعد بحث اجتماعي أجراه مندوبون عن المطعم سلفاً. ويقوم على خدمتهم 5 سيدات، ينحصر دورهن في تجهيز الطعام وتقديمه للقادمين، بداية من الساعة 12:30 وحتى 14:30 بالتوقيت المحلي، قبل تنظيف المكان ثم إغلاقه. الاحتياج في نبرة حزن ونظرة انكسار، تقول سمر محسن، إحدى المستفيدات، إنها "أرملة وتعول 3 أبناء في أعمار مختلفة". وتشكر المطعم، الذي ترتاده يومياً وأطفالها، للحصول وجبة لا يقدرون على ثمنها في ظل ظروف معيشية صعبة تواجههم، مضيفة "أصبح لا غنى عنه". وبوجه تكسوه التجاعيد، التي تعبِّر عن معاناة سنوات طويلة، يتحدث عبدالمنصف عبدالشكور (67 عاماً، يعيش وحيداً بعد وفاة زوجته) عن اعتماده على المطعم، في ظلِّ راتبٍ تقاعدي لا يتعدى 320 جنيهاً (18 دولاراً) شهرياً. ويتردد عبدالشكور، وفق ما يقول للأناضول، على المطعم بشكل يومي، "فيجد فيه وسيلة مساعدة دون مقابل، ويتناول أنواعاً مختلفة من الطعام لا يقدر على شرائها بالأسعار الحالية التي ارتفعت بشكل كبير". من "الموت" حياة فكرة المطعم لخدمة الفقراء بدأتها الثلاثينية المصرية سحر البزار، مسؤولة بأحد المصارف، كصدقة على روح والدها، الذي توفي في يناير/كانون الثاني الماضي. وتشير إلى إتمام الفكرة بالتعاون بين عدد من المؤسسات الخيرية، منها مؤسسة مصر الخير والجمعية الشرعية (مؤسسات أهلية غير هادفة للربح تقدم خدمات للمحتاجين في مختلف التخصصات). وافتتح المطعم، في 16 أبريل/نيسان الماضي، وبالتعاون مع الجمعية الشرعية، من خلال تجهيز دار خدمات تابعة لأحد مساجد المنطقة، لتكون موطناً يومياً لهم لساعات. تخفيف وأجر يقول علي عبدالعزيز، رئيس مجلس إدارة الجمعية الشرعية، إن "إطعام محتاج له أجر عظيم، والدين الإسلامي يحث على فعل الخيرات وإعانة المحتاجين". ويؤكد أن الهدف من الفكرة "تخفيف الأعباء الاقتصادية على المواطنين، عبر دراسة حالة لكل المحتاجين في المنطقة، ثم استخراج بطاقة عضوية للشخص المستحق للدعم، لتكون وسيلته اليومية للحصول على وجبة طعام متكاملة من دون أي مقابل مادي". "ربما تبدو في نظر الكثيرين مجرد وجبة طعام، لكنها بالنسبة لأهالي المنطقة طوق نجاة من الفقر"، كلمات عبَّر بها عبدالعزيز عن مدى أهمية الوجبة لهم. ويضيف أن "الوجبة لا تقتصر على سدِّ جوع مَن يأتي فقط، بل تساعدهم على توفير جزء من أموالهم لاستخدامات أخرى، ربما تشمل سداد إيجار المسكن أو فواتير المياه والكهرباء، أو تشجيعهم على إبقاء أولادهم في مراحل التعليم". ويوضح أن "المطعم يعتمد في تمويله على التبرعات العينية والنقدية، إلى جانب التبرعات العينية من مؤسسة مصر الخير، التي تعمل كشريك أساسي في المشروع منذ بدايته". ويأمل في الوصول بأعداد المستفيدين يومياً إلى 500 مشترك كمرحلة أولى، قبل الانتقال إلى مرحلة الألف مستفيد، بعد الانتهاء من توسيع المشروع بفتح مقر جديد له بالقرب من الحالي، مع الحفاظ على نفس الوجبة، والمكونة من خضراوات وأرز وسلطة وقطعة لحم أو دجاج، ونوع من الفاكهة. مسؤولية اجتماعية الرحمة تخفف معاناة الفقر، هكذا تعلق سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس (حكومية)، على التجربة. وفي حديثها، تُرجع فكرة انتشار المطاعم أو الجهات التي تقدم وجبات مجانية أو غيرها من وسائل المساعدات إلى "ارتفاع أسعار السلع بشكل كبير". وتستكمل خِضر، قائلة: "المسؤولية الاجتماعية مهمة، وضرورة حثَّنا عليها الإسلام، وتأتي من منطلق الحرص على كسب الآخرة من خلال فعل الخير في الدنيا، ودعم القادرين لغيرهم من المحتاجين، وهو أمر موجود في كثير من دول العالم". وتحث على ضرورة تشجيع هذه المبادرات المجتمعية، التي تعزز قيم "الشعور بالآخر" لدى المصريين، على غرار ما يحدث في الدول ذات الاقتصاديات القوية، والتي تعزز قيم المشاركة المجتمعية عبر حثِّ المواطنين على التبرع لمساعدة الفقراء والقضاء على البطالة، التي يعاني منها الشباب. ويعاني نحو 5.3% من سكان مصر الفقرَ المدقع في عام 2017، ارتفاعاً من 4.4% في 2013، نظراً لارتفاع أسعار السلع الغذائية، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بمصر( حكومي). وعرَّف الجهازُ الفقرَ المدقع بأنه يعني الفقر الغذائي، أي عدم قدرة الفرد أو الأسرة على توفير الاحتياجات الغذائية الأساسية. وتعترف السلطات المصرية، بتحمُّل الشعب معاناة ارتفاع الأسعار، وكثيراً ما طالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المواطنين بمزيدٍ من الصبر، متعهداً بتحسن الأحوال الاقتصادية، بعد أن تؤتي إجراءات الإصلاح الاقتصادي ثمارها.
مشاركة :