لا يمكن التعاطي مع ما يحدث في "الهيئة العامة للرياضة" على أنه أمر رياضي صرف، إنه أكبر وأشمل، يجبرنا على المشاركة والنقاش والتفنيد، لأن التحولات في القطاع الرياضي، بشكل عام، هي ملفات متشعبة، والتغيرات الكبيرة لها زوايا تنموية وإدارية واتصالية. بالعودة للخلف، للخلف قليلا، لا أحد - فعلا لا أحد - كان راضيا عما يحدث في الوسط الرياضي، سواء فيما يتعلق بالمنتج الكروي، أو مخرجات الأندية المتواضعة، أو حتى طريقة الإدارة، مرورا بالإعلام الرياضي (بكل ما يحتوي).. ولم يكن هناك سوى التذمر، كلغة سائدة، والكثير من الأحلام والوعود، والعقود الفضفاضة، والمنجزات الرمادية. الكل يبحث عن التغيير، لكن لا مبادر، وحتى الذين يرغبون، لا يملكون الصلاحيات، أو الرؤية. "هيئة الرياضة"، باسمها الحديث أو تاريخها القديم، مرت بمنجزات وتراجعات ومنعطفات ونكسات وتحولات، لا يمكن التعاطي معها بمنأى عن السياقات العامة، لكن نستطيع القول بأن عصرها الذهبي كان بصحبة الأمير الراحل فيصل بن فهد، الذي بنى تاريخا مختلفا، وطار بنا لكأس العالم، باللون الأخضر، مهمشا الألوان الأخرى.. لم تكن المرة الأخيرة لنا في المونديال، لكن الأخريات كانت باهتة، بلا طعم ولا شغف، مررنا بها من باب التوثيق لا التأريخ، حتى صارت المشاركة - لمجرد المشاركة - حلما، مناله ليس سهلا، تلاشى.. ثم عاد. يحن السعوديون للعصور الخضراء الذهبية، عصر التسيد والجنون، الحسم والتفرد، والذي لمحوا شيئا منه في منهجية المستشار تركي آل الشيخ، بعدما وصل لرئاسة الهيئة أخيرا، منقذا لما تبقى.. وحاميا لحلم كبير. يدرك - كما يبدو - أن الوقت لم يعد متاحا، وأن التعاطي معه أشبه بماراثون عالمي، الثواني تفصل بين الأول وخارج التاريخ. أعتقد، اعتقاد يرتقي لليقين، أن ملف كأس العالم هو الملف الرئيس، للرئيس الجديد، على الرغم من أهمية بقية الملفات، لكن هذا الملف يستمد أهميته من عدة نقاط: المشاركة السعودية بعد غياب مرتين، الوقت القصير للاستعداد، الصدى العالمي للمناسبة، واهتمام معظم السعوديين بالمشاركة. أستطيع القول بأن آل الشيخ سيختار مقعده من التاريخ بعناية في حال قدم المنتخب ما يليق، وهو أمر ليس بالمستحيل، لكنه ليس في متناول اليد في الوقت نفسه، فبالرغم من أهمية القرارات المتخذة حيال هذا الملف، إلا أن هناك الكثير من العمل الواجب، من أجل تحقيق معادلة التميز، الحضور المتفرد، ومحو المرات الماضية المرصعة بالوجع. أظن أن الأمر الوحيد، من وجهة نظري الاتصالية، الذي أرى أنه سيساعده كثيرا للإنجاز، هو تحييد ما يحدث من استعدادات وتحديات عن الإعلام، والعمل على تقديم كشف "تطميني" عام، من فترة لأخرى، أو الاكتفاء بالأخبار الإيجابية، التي تدفع بمشاعرنا وخططه للأمام، بعيدا عن الإعلام الرياضي، الذي يحتاج الكثير لينضج. الميزة، في الإدارة الحديثة للهيئة، أنها تتخذ منهج العمل المتوازي، انشغالها في تجهيزات كأس العالم لم ينسيها الملفات الأخرى، الكثير من القرارات التصحيحية، الاستبعاد والتعيين، توقيع الاتفاقيات العالمية، والاستفادة من الخبرات الاستثنائية، واستضافة الألعاب المتنوعة، حتى تم اتخاذ قرابة 50 قرارا مهما، في مدة لا تتجاوز 100 يوم، كانت لتأخذ أعواما، في أزمنة أخرى! لا يغيب على أحد قرب آل الشيخ من الأمير محمد بن سلمان، من خلال عمله كمستشار في الديوان الملكي، وهذا ما مكنه من فهم الاحتياج الذي يتسق مع الرؤية السعودية الحديثة، لذلك - وكما هو واضح - فهو يتعاطى مع الرياضة كأحد أهم الأدوار الأساسية، والركائز الاستراتيجية، المفضية لتحقيق أهداف الرؤية، لذلك يضع أولوية لتوسيع قاعدة الممارسة، وزيادة عدد الممارسين للرياضية، وتنوع مشاركة الفئات العُمرية المختلفة، ويركز على بناء الإنسان منذ الصغر، وهو ما سنراه منتجا من خلال الأكاديميات، التي أقرت قبل فترة قريبة. الطريقة التي يعمل عليها آل الشيخ، من خلال استقراء الأيام الأول له في الهيئة، تتمثل في تحليل واقع الإدارة الرياضية، على المستوى الوطني، ومقارنتها بالممارسات العالمية، وكذلك التشريعات المرتبطة بها، كمعيار أساسي لبناء مخططات التطوير، إضافة إلى أساليب تنمية الموارد البشرية العاملة في المجال الرياضي وتفعيل نظم المعلومات، ما يفضي لاستصدار القرارات بناء على مسح ودراسات، ومؤشرات قياس. "صناعة الرياضة"، للإدارة الحديثة، تعتمد على التمويل كآلية للتطوير، وهذا ما أكدت عليه الاستراتيجية، كإحدى الركائز المهمة، من خلال تحسين برامج التمويل الحكومي للرياضة، واستحداث أساليب مبتكرة للخصخصة والاستثمار الرياضي، لتفعيل أدوار القطاع الخاص؛ الأمر الذي ينحو بالرياضة السعودية كأحد مجالات الأعمال الجاذبة والواعدة. كما أولى اهتماما بالمنشآت الرياضية، لما لها من أهمية كأحد الدعائم التي تؤدي إلى تطوير الإنجاز الرياضي بالمملكة، من خلال زيادة عددها وتحسين آليات استخدامها، وفقا للتوزيع الجغرافي على المناطق المختلفة. وتحرص استراتيجية آل الشيخ على تأسيس نظام متطور لتشغيل تلك المرافق، ومشاركة القطاع الخاص من خلال الاستثمار المُوجَّه والإدارة الواعية لتطوير مخرجاتها. أعتقد، كتحليل شخصي، أن تركي آل الشيخ يحاول مجاراة المدرسة الألمانية، إذ أن التغييرات تتاشبه معها إلى حد كبير، وتحديدا في كرة القدم، من حيث الأولوية، واعتمدت التجربة الألمانية على نهج عُرف (تاريخيا) بقوته، وانضباطه التكتيكي، وتوازنه بالملعب والإدارة معا، وحتى بتألق مهاجمين كثر.. وهذه الطريقة قادت الألمان لتحقيق ألقاب ثمينة، ويكفي أن نتذكر بأن ألمانيا لم تغب عن أكثر من نهائي عالمي واحد، بين عامي 1974 و1990، لذا حين نتحدث عن انتفاضة ألمانية في هذه الألفية؛ فنحن لا ننكر أنها ولّادة بالتطور والنجوم والنهج المختلف. هكذا يبدو في كرتنا، ونرى انعكاسه أيضا على القرارات الأخرى، والتعاطي مع الإعلام، ورفع مستوى الشفافية ونسبة الوضوح. بعض المؤرخين، يعتقدون أن العلامة الفارقة التي أحدثت ثورة رياضية في ألمانيا، كانت الصرامة بحياتهم الرياضية، ومعاقبة كل من يخالف قوانينها كذلك، وإصرارهم على أساليبهم.. لكن إنذار عام 2000، وأعني به خروج ألمانيا من الدور الأول من كأس الامم الأوربية عام 2000، قدم صورة لما يمكن أن يحدث إذا ما قرر الألمان عدم القيام بتغيير جذري، وأول قرار اتُخذ تمثل بالسماح بضم لاعبين ليسوا من أصول ألمانية للمنتخب، فشاهدنا "جيرالد أسامواه" الذي بات أول دولي ألماني يملك بشرة سمراء، عبر التاريخ، إضافة لانضمام صاحب الأصول البولندية "ميروسلاف كلوزة" لمنتخب ألمانيا، وهذه الخطوة رأى بها البعض نسخا للنهج الفرنسي، الذي أتى بنجاحات كبيرة بين عامي 1998 و2001 بتشكيلة فقيرة بأصحاب الأصول الفرنسية. الفكرة، تتلخص بالمراجعة الدائمة، والمحاسبة الحازمة، والانفتاح على الأفكار والرؤى الجديدة، وهو ما يمثل السعودية الجديدة: عهد الحزم.. والرؤية. مثل كل الأعمال، هناك القرارات الصائبة وغير ذلك، وهو شيء أساسي في منتج أي منظمة أو مؤسسة، ومن لا يعمل لا يخطئ، لذلك قد تنقسم بعض الآراء هو المنهجية أو القرارات، وهو مفهوم، ولكن يهمنا الأغلبية المؤيدة، السعيدة بالتغير، والمتطلعة للنجاحات، والطامعة بوجود أرضية عصرية لرياضتنا، تستثمر كافة الموارد البشرية وغير البشرية، وتصنع سوقا استثمارية جديدة وجادة، وقابلة للتمدد والاستمرار. أين تكمن التحديات؟ بمباشرة ووضوح: أظنها في التعاطي مع الإعلام، هذا أولا. يكفي للمستشار أن يلتفت للخلف ويرى العبث الكبير في العديد من المنتجات الإعلامية، ولفترات طويلة، وإزدواجية الآراء وتبدل الرؤى، ومحاولة بعض المنتمين للوسط الإعلامي الرياضي تقديم مصالحهم الذاتية على المصلحة الوطنية، وهذه ليست مزايدة، ولكنها حقائق موجودة، لا بد من مواجهتها بحزم. العمل الاتصالي يحتاج جهدا مختلفا، هو أشمل من العمل الإعلامي، يتقاطعه معه، لكنه أشمل وأكبر وأهم! ثانيا: عدم التنفيذ كما يجب، وأعني بهذا ترجمة القرارات لعمل حقيقي على الأرض. أحيانا تصطدم بالبيروقراطية، وأعتقد أنه قادر على تجاوزها، ولكن هناك عوامل ثانية كعدم وجود الكفاءات، أو تسارع المتغيرات، أو فشل بعض القادة في تنفيذ مهماتهم. على الرغم من كل شيء، لا نزال في أول الطريق.. ننتظر، وينتظرنا، الكثير من العمل والتحدي والانتصارات. والسلاممدير عام مركز سمت للدراسات
مشاركة :