لا تحتاج الولايات المتحدة إلى إحياء الذاكرة الجمعية إلا إذا كان في ما تخططه واشنطن في المستقبل ما يتطلب استدعاء الماضي على عجل. وحين تعيد واشنطن تحريك الخنجر في جرح قديم، فذلك أن ما يُدبر يستدعي حميّة أميركية جامعة تتعطش للانتقام لمئات من جنود المارينز الذين سقطوا قبل عقود منصرمة. يتحدث مايك بنس عن إرهاب دولي أشعل حزب الله شراراته الأولى منذ أن راحت خلاياه تخطف رهائن أميركيين في لبنان وتضرب خلايا أخرى سفارة واشنطن في بيروت (18 أبريل 1983) وتدمر ثكنة جنود المارينز. وإذا ما كان منطق الأشياء يدفع باتجاه أن الأمر من الماضي وأن صنّاعه من الماضي، يخرج مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر بالتعويذة الجاهزة: من دمر ثكنة المارينز في لبنان باتوا مسؤولين كبارا في حزب الله اليوم. قبل أسابيع أعلنت واشنطن عن مكافآت مالية لمن يدلي بمعلومات عن قياديين من حزب الله. في الأمر تصعيد نوعي لافت يختلف عن منطق العقوبات التي ما برحت الإدارات الأميركية المتعاقبة توزعها ضد خصومها كبارا كانوا أم صغارا، والأدهى أن واحدا من أؤلئك الذين وضعت مكافأة على رأسه (فؤاد شكر) متهم بأنه ممن تورطوا في تفجير جنود المارينز في لبنان. في ذلك أن ورشة حرب تحرّكت في واشنطن، وأن تلك الحرب تحتاج لغلاف شعبي أميركي يدافع عن "كرامة أميركا" بالنسخة التي تنفخ بها شعبوية رجل البيت الأبيض الأول. ليس من الواضح أي حرب تنوي الولايات المتحدة خوضها للنيل ممن أشعلوا الفتيل الأول للإرهاب في العالم وفق رواية بنس المترجلة على عجل. قبل ذلك كان ترامب نفسه قد أبلغ العالم باستراتيجية بلاده الجديدة ضد إيران. ينقلب الرجل على عقيدة سلفه تجاه إيران. كان أوباما قد أوصى بلدان الخليج (في مقابلته الشهيرة مع مجلة ذي اتلانتيك في مارس 2016) بالتفاهم مع إيران لإدارة المنطقة وتقاسم النفوذ فيها. فهم من تلك العقيدة أن أوباما يميل للتعامل مع إيران بصفتها أصلاً واعتبار أن على بقية الأطراف، لا سيما في الخليج، أن تكون فرعاً. أغلق ترامب هذه الرواية. أعاد تموّضع بلاده في المنطقة بما يعيد الاعتبار لتحالفات واشنطن التاريخية بصفتها أصلاً، وبما يستدعي مواجهة هذا الإستثناء الإيراني الذي يقضّ مضجع المنطقة منذ ولادة الجمهورية الإسلامية ويقض مضجع "أميركا العميقة" منذ أن فجرت أدواتها في لبنان وجود الولايات المتحدة الدبلوماسي والعسكري في لبنان. غادر رونالد ريغان لبنان غداة نيل حزب الله من المارينز هناك لأن انسحابه من لبنان لا ينال من زعامة بلاده المطلقة لعالم ذلك الزمان. وقد يعيد دونالد ترامب تصويب جهود بلاده ضد حزب الله في لبنان لأن مصلحة الولايات المتحدة في العالم باتت اليوم، وعلى خلاف عقيدة أوباما، تستدعي العودة بقوة إلى الشرق الأوسط، وتلك العودة تصطدم مع نفوذ إيران المتمدد في المنطقة، وبوابة ذلك الصدام تطلّ من حكاية فجيعة أنزلها حزب الله بالجيش الأميركي قبل عقود. يكفي تأمل الخرائط الميدانية والسياسية للحراك الأميركي في الشرق الأوسط لاستنتاج السمات الأولى لإستراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. تعود الولايات المتحدة لتمسك بمجريات الأمور في العراق. يتحرك رئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي باتجاه العرب اتساقا مع مسعى أميركي لإبعاد طهران عن بغداد. تُظهر العواصم العربية همّة جدية لإستعادة العراق في سعي يلتقي مع الخطوط العريضة لاستراتيجية واشنطن المعلنة ضد إيران. بالمقابل يعلن دونالد ترامب أن الوجود الأميركي في سوريا ليس عابراً، وأن لواشنطن ما بعد داعش هناك خطط تستدعي "التعامل مع القوى المحلية" لإرساء السلم والتسويات. تشعر موسكو فجأة بأن الولايات المتحدة باتت ضيفا ثقيلاً داخل البلد الذي أعتبره فلاديمير بوتين مشاعا روسيا منذ أن أطلق قاذفاته لـ "ضرب الإرهاب في سوريا" في سبتمبر من عام 2015. كانت موسكو تعمل في الورشة السورية فيما تواكبها واشنطن بعناية دون اعتراض. بات لواشنطن أجندة خاصة منافسة تنهي الاحتكار الروسي على نحو غامض لم تدركه موسكو. يخرج وزير الخارحية الروسي سيرغي لافروف ليعترف شاكيا: "أشياء غريبة يمارسها التحالف الدولي في سوريا". ليس صحيحاً أن واشنطن لا تملك استراتيجية في الشرق الأوسط. عملت مصر على تدبير مصالحة عجائبية بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية. فيما تقف إسرائيل مذهولة من المديح الذي تكيله منابر أميركية للاتفاق الفلسطيني الداخلي. تنشر واشنطن قواعدها العسكرية في سوريا على بعد كيلومترات من قواعد روسيا هناك، فيما يظهر في ريف الرقة الموفد الرئاسي الأميركي إلى التحالف الدولي لمكافحة داعش بريت ماكغورك بصحبة رجل المهمات الاستثنائية في السعودية الوزير ثامر السبهان. يُسيل الحدث حبراً غزيراً يقلق طهران ودمشق وأنقرة، ذلك أن عودة الولايات المتحدة إلى المنطقة يربك كافة عواصمها ويعبث بقواعد بثها غياب أميركا-أوباما. ولا ريب أن في بيروت من فهم أن واشنطن تستدعي ذاكرة ثكنة المارينز في لبنان بما يستدعي منه رداً حازما ضد الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي ما زال يرى أن لا قرار في بلدان المنطقة، بما فيها لبنان، دون الأخذ بالاعتبار كلمة طهران. تذكرت واشنطن قتلاها في بيروت منذ 34 عاماً. ربما أن اسيقاظ واشنطن قد يوقظ باريس على تذكر 58 قتيلا فرنسيا سقطوا في نفس اليوم. لكن حتى الآن فإن عزف دونالد ترامب في البيت الأبيض لا تسمعه إدارة إيمانويل ماكرون في الإليزيه. لم يذهب ريغان لوحده إلى لبنان فهل يعود ترامب إليه وحيدا؟ محمد قواص صحافي وكاتب سياسي
مشاركة :