«فالستاف» لأورسون ويلز: ربع قرن ونسخ عدة لعمل واحد

  • 10/28/2017
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

اثنان على الأقل من كبار المبدعين الإنكليز في فنّي المسرح والسينما، حققا انطلاقاً من الأعمال الشكسبيرية المسرحية الكبرى، أفلاماً دخلت سجل الخلود الفني: لورانس أوليفييه وكنيث براناه. هذا لكي لا نحصي هنا العشرات من سينمائيي مختلف الشعوب والأمم من الذين ساهموا طوال القرن العشرين وبعده، في أفلمة الروائع الشكسبيرية بجودة تزيد أو تقلّ، وبتوفيق متفاوت فأوصل بعضهم مسرحيات شاعر الإنكليز الأكبر إلى أعلى الذرى وحطّ بعضهم بها إلى أسفل السافلين. ومع هذا حين يصار إلى الحديث عن شكسبير والسينما لا شك أن الاسم الأول الذي سيخطر في البال إنما هو اسم الأميركي العملاق أورسون ويلز... لكن ويلز لم يحقق في حقيقة الأمر سوى فيلمين مكتملين انطلاقاً من شكسبير: «أوتيلو» الذي صور معظم مشاهده في المغرب وحقق السعفة الذهبية في مهرجان «كان»، و «ماكبث» الذي يعتبر عادة من أقوى أفلام أورسون ويلز وواحداً من أفضل المقتبسات عن تلك المسرحية «الشريرة» القاسية. وفيما عدا هذا، حقق ويلز فيلماً عن «تصويره أوتيلو»، لكنه حقق أيضاً فيلماً «شكسبيرياً» كبيراً لا بد من المسارعة إلى القول إنه لم يُقتبس من مسرحية محددة لصاحب «هاملت» و «الملك لير». وكذلك من الصعب القول أنه اقتُبس من تلك التركيبة التي قام بها الموسيقي الإيطالي الكبير فيردي حين كتب أوبراه «فالستاف». صحيح أن فيلم ويلز الذي نشير إليه يتشارك مع أوبرا فيردي في العنوان وجعل شخصية فالستاف محور العمل، لكنهما يفترقان عن بعضهما بعضاً في الحبكة والسياق، من دون أن يعني هذا أن «فالستاف» فردي لم يكن في بال ويلز حين اشتغل أواخر سنوات الأربعين على ذلك العمل الذي شاءه مسرحياً أول الأمر وقبل أن يحوله إلى مشروع سينمائي لم يكن يبدو عليه أنه مقتنع به حقاً. مهما يكن، كانت النتيجة في نهاية الأمر فيلماً «شكسبيرياً» مميّزاً لا بأس أن نذكر أن كثراً من غلاة محبّي أعمال ويلز يعتبرونه من أروع أفلامه إخراجاً. ولكن تمثيلاً أيضاً، حيث نعرف أن أورسون ويلز ذا الخمسين في ذلك الحين أدى في الفيلم تلك الشخصية، شخصية الماكر العجوز التي لا يمكن العثور عليها وعلى أفعالها في عمل واحد لشكسبير بل موزعة على أعمال عدة تشغل فيها مكانة ثانوية لا أكثر. > لدى ويلز، ومن قبله لدى فردي، أضحت الشخصية رئيسية إذا تحضر في التاريخ الإنكليزي خلال حقبة عرف فيها هذا التاريخ تقلّب العرش بين خمسة ملوك. زمن هنا، حين كتب ويلز النص في المرة الأولى وهو راغب في أن يقدمه مسرحياً، رأى أن من الطبيعي له أن يعنونه «خمسة ملوك»، أما حين انتقل إلى الشاشة فقد حمل اسمين يستخدمان في شكل متتابع: «فالستاف» و «خيالات عند منتصف الليل» وإن كان ثمة من لا يزال يستخدم العنوان القديم «خمسة ملوك» حتى اليوم. أما السؤال الذي لم يكفّ كثر عن طرحه على أنفسهم فهو: ترى لو كان شكسبير بيننا وشاهد هذا العمل الذي اقتبسه أورسون ويلز منه، كيف كانت ستبدو نظرته إليه؟ بالنسبة إلى كثر من النقاد، كان سيرضى عنه أكثر كثيراً من رضاه عن أوبرا فردي. ففي نهاية الأمر، بقدر ما يبدو «فالستاف» عملاً ويلزيّاً شكلاً ومضموناً، يبدو في الوقت نفسه شكسبيرياً صرفاً. فيه كل الملامح الشكسبيرية ولا سيما منها تلك التي ميزت نصوصه المرحة والماجنة والتي تعطي المكانة الأولى لعالم اللهو ومناورات الغرام وحثالة السكارى واللاهين، أكثر مما تعطيها للقصور والدرامات المتحلقة من حول السلطة وصراعاتها. ومع ذلك علينا أن نلاحظ أن هذا بدوره موجود في «فالستاف». فكما قلنا، لم يأت ويلز بشيء من عنده. كل ما في الأمر أنه أتى بتلك الشخصية العجيبة التي لاحظ وجودها في عدد من مسرحيات شكسبير الكبرى، فاخترع لها سياقاً مترابطاً لا يبعدها عما كانت عليه في المسرحيات التي حضرت فيها، وبنى لكل ذلك نوعاً من سياق ترابطي تاريخي تكون هي ضابط الربط فيه حتى وإن كان من الصعب أن نقول إنها كانت محوره. > في «فالستاف» الذي حققه ويلز في إسبانيا بين العامين 1964-1966، يعود السينمائي إذاً إلى ذلك العمل المسرحي الذي كتبه وقدّمه في عام 1939 وكان بالكاد قد بلغ الرابعة والعشرين من عمره ولم يكشف «رغباته» السينمائية بعد، إذ كان ذلك قبل تحقيقه فيلمه الروائي الطويل الأول «المواطن كين». ولنشر هنا إلى أن النص المسرحي الأصلي الذي شكل يوم تقديمه الجزء الأول فقط من المسرحية المعنونة «خمسة ملوك» بُني على شخصيتي فالستاف والأمير هال الذي سيحكم لاحقاً باسم هنري الخامس، مأخوذتين من مقاطع عدة من مسرحيات شكسبير الثلاث: «هنري الرابع الجزء الأول» و «هنري الرابع الجزء الثاني» و «هنري الخامس». ولقد أضاف ويلز إلى هذه المقاطع نصوصاً تأتي مروية بصوت برّاني مأخوذة من «مدونات هولنشيد» التاريخية. ويومها لعب ويلز دور فالستاف العجوز على رغم صغر سنه إلى حد لا يصدَّق. ونعرف أن فالستاف هو في العمل ككل ماجن سكير عجوز يعيش حياة متحررة لا تؤمن بأية قيم اجتماعية راسخة. وتكون صفاته هذه هي التي تقرب إليه الأمير هال ساحرة إياه متبعاً نمط حياته حتى اللحظة التي يضحي فيها الأمير ملكاً، فيكون أول ما يقدم عليه طرد فالستاف من حاشيته وتحديداً للأسباب التي كانت قد فتنته. > عندما قدّم ويلز هذا العمل كان النجاح معقولاً على رغم أن زمن العرض تجاوز الأربع ساعات. وكان سيليه بالطبع ذلك الجزء الثاني الموعود من المسرحية المركّبة نفسها. وفي ذلك الجزء الذي لا يقلّ طولاً عن الأول، اشتغل ويلز بالطريقة نفسها: أضاف مقاطع جديدة مأخوذة هذه المرة من مسرحيتين أخريين لشكسبير هما «هنري السادس» و «ريتشارد الثالث». غير أن النجاح الذي كان من نصيب الجزء الأول من جانب النقاد لم يواكبه نجاح جماهيري حتى وصول الجزء الأول إلى نيويورك حيث حاز على بعض نجاح لم يكن على أي حال كافياً لتأمين نجاح عرض الجزء الثاني. وهكذا لم يقدم هذا أبداً في ذلك الحين ما اضطر المبدع الشاب إلى أن يطوي أوراقه ويضع العمل كله على رف الانتظار الذي سرعان ما سوف يتحول إلى رف النسيان... لأكثر من عشرين سنة حقق خلالها ويلز ما نعرف من أفلام و «هجمة» سينمائية تفاوت نجاحها الجماهيري المحدود مع نجاحها الفني الضخم. ولكن في عام 1960 عاد ويلز ليحيي الجزء الأول من «خمسة ملوك» حين قدمه على خشبة «مسرح غيت» في دابلن، إنما تحت المسمّى الجديد «خيالات عند منتصف الليل». غير أن ما لا بد من ملاحظته هنا هو أن العمل «الجديد» إنما تركّز هذه المرة على العلاقة الوثيقة بين فالستاف والأمير هال. وتحديداً على القيم التي يرى ويلز أنها تسم شخصية فالستاف على رغم كل المظاهر: قيم رعاية الصداقة والحنان وحب الحياة. ففالستاف على رغم مكره وضروب احتياله وضلالاته، رجل يحفظ الود ويؤمن بإيثار الآخرين حتى على ذاته، ناهيك بأنه يعرف في اللحظة المناسبة كيف يرعى مصلحة المملكة ولو على حساب مصالحه الخاصة. إنه يعرف جيداً ما الذي تتطلبه ممارسة السلطة ويخضع له. بل يشجع عليه صديقه الأمير وقد أضحى ملكاً حتى ولو دفع هو نفسه- فالستاف- ثمن ذلك. والحقيقة أن ويلز لكي يعبر عن هذا خير تعبير، كان لا بد له أن يحصر الأحداث هذه المرة في حقبتي هنري الرابع من المتن الشكسبيري. > والحقيقة أن هذا التركيز هو الذي سوف يهيمن في شكل أساسي بعد تقديم هذه النسخة الجديدة من العمل بسنوات قليلة حين كان ويلز يزور يوغوسلافيا لمناسبة تمثيله فيلماً فرنسياً هناك عن ماركو بولو. يومها فوتح باستعادة المشروع سينمائياً هذه المرة فلم يتردد طويلاً، بل كتب السيناريو السينمائي مازجاً فيه بين الصيغة الجديدة وبين الصيغ القديمة إضافة إلى ملامح من بعض الكوميديات الشكسبيرية الأخرى. لكن الذي حدث هو أن «المشروع اليوغوسلافي» عاد وأخفق لينتقل ويلز وفريقه بعد ذلك في مراحل متفرقة خلال العامين التاليين إلى إسبانيا حيث تم خلال عامين متقطعين إنجاز ذلك الفيلم الذي أسفر في نهاية الأمر عن تحفة سينمائية تليق بأورسون ويلز، ولكن هذه المرة بسنه وقد أربى على الخمسين وصار فالستاف بحق وحقيق.

مشاركة :