يُعتبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب منتقداً قديماً لحرية التجارة واتفاق «نافتا» (اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية– 1994)، الذي ينص على إلغاء التعرفة الجمركية على التجارة بين الدول الثلاث الأعضاء، وهي الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وتسهيل نشاطات شركاتها عبر الحدود. وجدّد ترامب خلال حملته الانتخابية انتقاده واعتبر الاتفاق التجاري الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، لأنه أضرّ كثيراً بالصناعة التحويلية الأميركية وعمالها، بعدما بدأت المصانع بالإقفال والانتقال جنوباً إلى المكسيك للاستفادة من انخفاض الأجور. وفي نيسان (إبريل) الماضي، هدد الرئيس الأميركي كندا والمكسيك، بالانسحاب من «نافتا»، لكن البلدين الأخيرين اقترحا عليه إعادة التفاوض بدلاً من الانسحاب. وفي 16 آب (أغسطس) الماضي بدأت الجولة الأولى من إعادة المفاوضات على نصوص الاتفاق في واشنطن وانتهت بعد ثلاثة أيام. ونوقشت خلالها كيفية تحديث الاتفاق، بإدخال فصول جديدة تخص الاقتصاد الرقمي وتجارة الطاقة والبيئة والعمل ومعايير العملة وغيرها من المستجدات، التي لم تكن موجودة عندما دخل «نافتا» حيز التنفيذ. واعتُبرت تلك الجولة مناسبة ليبدي كل عضو وجهة نظره عما يريده من الاتفاق. وأوضحت الولايات المتحدة أنَّ مطالبها تتمثل بخفض العجز التجاري مع المكسيك (64 بليون دولار)، وتبني قيود مشددة على قواعد منشأ السيارات وأجزائها التي تدخل إلى الدول الأعضاء، وإعطاء نسبة أعلى منها للسيارات الأميركية. كما طالبت بإلغاء الفصل 19 من الاتفاق والخاص بآلية فض النزاعات. بينما رفضت كندا الطلب الأخير وأصرّت على إبقائه، فيما طلبت المكسيك الحفاظ على حرية دخول سلعها وخدماتها إلى الولايات المتحدة وكندا، والرغبة في مزيد من التكامل في سوق العمل وتقوية أمنها للطاقة. ومع استمرار تهديدات ترامب بالانسحاب، عُقدت الجولة الثانية من إعادة المفاوضات في المكسيك، وسُجل توافق على تحسين أوضاع الشركات الصغيرة وإنقاذ بعض فقرات اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ TPP، الذي رفضه ترامب لدى تسلّمه السلطة. وأملت الولايات المتحدة أيضاً، في أن تفتح المكسيك قطاع الطاقة والغاز فيها لأنه سيزيد الاستيراد من الولايات المتحدة ومن استثمار الشركات الأميركية في البنى التحتية في المكسيك. لكن المرشح الأول للانتخابات المكسيكية المقررة في تموز (يوليو) 2018 ، يرفض فتح قطاع الطاقة للاستثمار الأجنبي. وطالبت الولايات المتحدة في هذه الجولة بألا يقل نصيبها من مجموع صناعة السيارات في منطقة «نافتا» عن 70 في المئة. بينما اقترحت كندا رفع المكوّن المحلي للدول الثلاث في صناعة السيارات من 62.5 في المئة حالياً إلى 70 في المئة، لكن قوبل هذا الاقتراح برفض الولايات المتحدة. وتماشياً مع مبدأ «صنع في أميركا»، تريد الولايات المتحدة إدخال شرط في الاتفاق ينص على أنْ تكون هي المصنّع لجزء محدد من السلع الداخلة في تجارة «نافتا». ورأت كندا والمكسيك أنَّ هدف الولايات المتحدة من تشديد مطالبها وتهديداتها المستمرة بالانسحاب من الاتفاق، على رغم موافقتها على إعادة التفاوض، الحصول منهما على مزيد من التنازلات. فيما لا يزال الرئيس الأميركي يصرّ في خطاباته، على أنه سيجبر المكسيك على دفع كلفة الجدار الذي يقيمه على حدودها كنوع من أنواع الضغط أيضاً. وساد التوتر الجولات الثلاث الأولى من المفاوضات، على رغم أنها لم تتطرق إلى مواضيع حساسية بعد، كما تناولتها الجولة الرابعة والتي ما إنْ بدأت في المكسيك حتى أخذ الحديث عن إعادة كتابة «نافتا» منحى آخر، بعدما قدمت الولايات المتحدة قائمة باقتراحاتها والتي تتلخص، بـ «رفع نسبة المكونات الإقليمية في صناعة السيارات وأجزائها وتحديداً المكونات التي تنتجها الولايات المتحدة من الحديد والألمنيوم والنحاس والبلاستيك والكترونيات السيارات وبطاريات السيارات الكهربائية، فضلاً عن إلغاء الفصل 19 من الاتفاق والخاص بآلية فض النزاعات، وتقييد قدرة الشركات الكندية والمكسيكية على الدخول في مناقصات المشتريات الحكومية الأميركية، وأخيراً إضافة مادة جديدة إلى الاتفاق تشترط إعادة تجديدها كل خمس سنوات. واعتبرت كندا والمكسيك أن هذه الطلبات مستحيلة وتعيد عقارب الساعة إلى الوراء بعد 23 عاماً من التعاون والشفافية والانفتاح. كما أن معظم هذه الاقتراحات تناهض اتفاق منظمة التجارة العالمية WTO. وبسبب عدم التوافق رُحّلت المواضيع إلى الجولة الخامسة، التي ستُعقد في النصف الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. وعلى رغم تأييد الاتحاد الأميركي للعمال واتحاد الصناعات الأميركية لموقف ترامب، يبدو أنه يغرد وحده بالتهديد بالانسحاب من الاتفاق أو قدرته على الحصول على مزيد من التنازلات، فالانسحاب الذي يسمح به الاتفاق بعد أنْ يعطي أحد الأعضاء إشعاراً قبل ستة أشهر، يتطلب في حالة الولايات المتحدة موافقة الكونغرس. ويتعهد اللوبي المؤيد للاتفاق بمنعه من الانسحاب. فيما يؤيّد القطاع الخاص والمزارعون وغرفة التجارة للولايات المتحدة الاتفاق، وهم يؤكدون أنه حقق الكثير للولايات المتحدة. أما بالنسبة إلى الخسارة في عدد الوظائف الحكومية، أظهر بعض الدراسات، أن من الصعب عزل تأثير «نافتا» عن انعكاسات بقية التطورات. إذ بدأ عدد الوظائف في قطاع الصناعة التحويلية يتراجع قبل وضع «نافتا حيّز التنفيذ عام 1994. ويعود معظم هذا التراجع إلى أتمتة الصناعة الأميركية والاستعاضة عن اليد العاملة بالروبوتات. كما أن خفض التعرفة الجمركية على المكسيك بموجب «نافتا»، تزامن مع تقليصها على دول أخرى بموجب اتفاق منظمة التجارة الحرة عام 1995. وازدادت منافسة الصادرات الصينية بعد انضمام الصين إلى المنظمة عام 2001. ويرى الاقتصاديون المعنيون في الولايات المتحدة، أنَّ بلدهم خسر من وظائفه للصين أكثر بكثير مما خسره للمكسيك. وأشارت غرفة التجارة الأميركية، إلى أن اتفاق «نافتا» رفع حجم التجارة بين الدول الأعضاء من 290 بليون دولار عام 1993 إلى تريليون عام 2015. وحذرت من أن الانسحاب من الاتفاق سيكلف الولايات المتحدة مئات آلاف الوظائف وسترتفع الكلفة ببلايين الدولارات، بسبب عودة التعرفات الجمركية. كما سيعاني المستهلكون من ارتفاع الأسعار ومن شح في السلع الزراعية والصناعية. وأعلن رئيس الغرفة أنَّ 14 مليون وظيفة في الولايات المتحدة، تعتمد على التجارة مع كندا والمكسيك. كما تبلغ قيمة التجارة بين الدول الأعضاء بليون دولار يومياً. وينسحب القلق أيضاً على المزارعين الأميركيين، الذين يرون أنَّ سوقهم الحقيقية هي خارج الولايات المتحدة، وفي مقدمها كندا والمكسيك. وتمثّل الزراعة الأميركية قصة نجاح عظيمة تحت لواء «نافتا». وبسبب التعنت الأميركي ومطالبة الولايات المتحدة بأنْ تكون الرابح الوحيد من الاتفاق، بدأت كندا والمكسيك بالتصريح أنَّ انهيار الاتفاق ليس نهاية العالم لهم، وهم وإنهم بدأوا يفكرون في إيجاد بدائل له. وترتبط كندا أصلاً باتفاق تجارة حرة ثنائي مع الولايات المتحدة، يمكن العودة إليه. بينما تفكر المكسيك بتوثيق علاقاتها التجارية مع البرازيل ودول آسيا.
مشاركة :