الحمار فقط هو مَن يصدق أن المحاربة من أجل الوطن تكون عبر الأسِرَّة والعمليات القذرة

  • 10/30/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

منذ فترة ألّف مجرم الحرب الفرنسي الجنرال أوسارس‏‏ كتاباً اسمه‏ "مهام خاصة"؛ يحكي فيه عن الحقبة الزمنية الخاصة بدولة الجزائر الشقيقة وحرب التحرير هناك، ويحكي فى كتابه عن الجرائم التي قام هو نفسه بارتكابها حيال شعب الجزائر. الجنرال الفرنسي كان رئيساً للمخابرات الحربية المضادة لنشاط‏‏ جبهة التحرير الجزائرية،‏‏ ولم ينكر الرجل في كتابه أياً من التهم التي كانت موجهة إليه، والتي على أساسها تم تجريده من رتبه العسكرية من ثلاثين سنة، بل بالعكس يعترف بجرائمه كاملة. عندما صدر الكتاب، واعترف الجنرال بوضوح بجرائمه وأكدها ووثقها، قامت المحكمة باستدعائه لسؤاله، والاستفسار منه عما حدث إبان هذه الفترة، ولم تكن المحكمة تهدف بسؤاله التوثيق فقط، وإنما كانت تهدف لمعرفة السبب وراء إصراره على كل جرائمه ضد الشعب الجزائري‏. فوقف الجنرال في المحكمة، وقال: "إذا كان من الواجب في بعض الأحيان أن يسكت القائد ولا ينطق بكلمة عن أي شيء؛ لأن هذا واجبه العسكري‏، ففي بعض الأحيان يجب أن يقول‏، وهو في هذه الحالة يتحدث إلى التاريخ‏". لم يكن الرجل فقط يهدف إلى إعلانه بوضوح أنه ارتكب هذه الجرائم، ولكنه أراد بهذا الاعتراف ألا يقوم أحد من بعده بتشويه الحقيقة أياً كانت الأسباب. وحاول محاميه أن يخفف من حدة هذه الصراحة الوقحة‏، ولكن الجنرال رفض كل تبريرات المحامي ومحاولته إبعاد التهم عن موكله‏‏ ووقف الجنرال يرفض كل ما قاله المحامي مهما كانت دوافعه نبيلة.‏‏ وفي المحكمة وقف المحامي يقول:‏ "ليست الجرائم بالضبط كما قال موكلي"،‏ ويرد عليه الجنرال:‏ "ليس بالضبط كما قال المحامي‏، فأنا مجرم بكل المعاني، وكل الصفات‏، وهذا اعتراف مني بذلك‏"، وعندما سئل:‏ "ولكن لماذا؟". رد الجنرال قائلاً:‏ "لماذا ليست هذه هي الكلمة المناسبة في هذا المجال‏ فنحن في حالة حرب، وليس أمامي لوقف قنابل‏ جبهة التحرير الجزائرية‏‏ إلا مواجهتها بالقتل والتعذيب والخطف‏،‏ ولا توجد أية طريقة لاستخلاص المعلومات وبسرعة إلا تعذيب الأسرى حتى الموت‏". وسأله القاضي‏: "إن كان لا يجد سبباً لاعتذاره عن هذه الأعمال الوحشية". فيرد الجنرال" "لا أعتذر عن واجبي العسكري في تلك الظروف القاسية‏". وعاد القاضي يسأله:‏ "كيف تنفرد باتخاذ مثل هذه القرارات الدموية؟". فقال الجنرال:‏ "لم أنفرد وإنما هي سياسة الدولة كلها‏".‏ ورجع القاضي يسأله:‏ "ماذا تعني بأنك لم تنفرد باتخاذ هذه القرارات بقتل ‏24‏ جزائرياً وتعذيب وخطف المئات؟". فيلقى مجرم الحرب الجنرال أوسارس القنبلة الأخيرة التي تزلزل المحكمة كلها ويقول:‏ "لم أنفرد بأي قرار فقد أيّدني كل الزعماء السياسيين في ذلك الوقت، وفي مقدمتهم وزير العدل الذي صار رئيساً لفرنسا مرتين‏ فرانسوا ميتران‏"، وحكمت المحكمة عليه بسجنه خمس سنوات وغرامة ربع مليون فرنك فرنسي في حينها. لا تكمن المشكلة في الأشخاص التي تجرم في حق بلدها، وهي على دراية كاملة بما تفعل، إنما المشكلة الأكبر في أولئك الذين يفعلون ذلك وهم على قناعة واعتقاد شخصي بأنهم يخدمونها. يتجلى ذلك وبوضوح في حوار يحدث في الفيلم العبقري "كشف المستور" الذي كتبه وحيد حامد، وأخرجه عاطف الطيب للسينما المصرية، وكانت تقوم فيه "نبيلة عبيد" بدور شخصية اسمها سلوى تقوم بخدمة المخابرات العامة عن طريق اصطيادها لبعض الشخصيات السياسية الهامة والدبلوماسية؛ لتذهب بهم إلى غرف النوم للوصول لأكبر كم من المعلومات من خلال هذه العلاقات غير المشروعة، ومن خلال تسجيل هذه العلاقات؛ لتقوم المخابرات العامة بعدها بابتزاز هذه الشخصيات، ولكن بعد فترة تعتزل سلوى المهنة، وتتزوج من أستاذ جامعي؛ لتعيش حياة أسرية مستقرة، ولكن وكما يقول المثل "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"، فبعد مرور عشرين عاماً تُفاجأ سلوى باستدعاء من رئيس الجهاز الذي يقوم بدوره الفنان فاروق الفيشاوي؛ لطلبها من أجل مهمة جديدة وأخيرة مع أحد الدبلوماسيين العرب، الذي كانت عرفته على الفراش منذ عشرين عاماً، وترفض سلوى وتعتذر، فيُهددها رئيس المخابرات الجديد بشريط فيديو قديم لها، وتضطر سلوى معه لطلب الطلاق من زوجها، وتقوم بالبحث عن المسؤول السابق في المخابرات الذي كان موكلاً له من قبل إدارة هذه النوعية من العمليات، ويدور هذا الحوار بينهما: * مسؤول المخابرات: ما كنتش بغشك ولا بخدعك، أنا كنت مؤمن إن كل حاجة بنعملها كانت فى سبيل الوطن، كانوا بيسموني جنرال السراير، ما كنتش بزعل، جنرال، زيها زي المدفعية وزي المدرعات، ده كان اعتقادي الراسخ وقتها، لا أنا كنت قواد رخيص ولا إنتو كنتوا بنات ليل، كلنا كنا فاكرين إننا بنخدم الوطن، حتى اللي عذبوا الناس في السجون كانوا فاكرين إنهم بيخدموا الوطن، فيه ناس كتير ماتت في مغامرات هايفة، وأكيد ماتوا وهما فاكرين إنهم بيخدموا الوطن، دايماً أعظم لحظة فى الوجود هي لحظة اكتشاف الحقيقة، اللحظة اللي أنا بتمناها لناس كتير، هي لحظة ما يكتشف إنه حمار. - سلوى: ممكن أعرف سيادتك حمار ليه؟ * مسؤول المخابرات: لأن الحمار بس هو اللي يصدق إن الوطن ممكن يستفيد من العمليات القذرة. - سلوى: يعني كل الكفاح اللي كافحناه على السراير ما جابش أي نتيجة. الخلاصة: يقول توماس كارليل: "حاول ألا تفقد تلك النعمة السماوية التي تسمى الضمير"، ويقول ستوكلي كارمايكل: "هناك قوانين أعلى من قوانين الحكومات: إنها قوانين الضمير"، ويقول مصطفى محمود: "إن كل ما بالعالم من كوارث وأزمات ومِحَن وحروب ومجاعات ينبع من أصل واحد وهو أزمة الضمير الإنساني وما أصابه". ويقول دانتي أليغييري: "أيها الضمير، المستقيم وغير القابل للصدأ، كم هي مريرة لدغتك من خطأ قليل!". ويقول جوش بيلينجز "العقل غالباً ما يصنع الأخطاء، ولكن الضمير لا يخطئ"، ويقول جبران خليل جبران: "عذاب النفس بثباتها أمام المصاعب والمتاعب هو أشرف من تقهقرها إلى حيث الأمن والطمأنينة". ويقول أنيس منصور: "من يعذبه ضميره فليس بحاجة إلى عذاب آخر"، ويقول رسول حمزاتوف: "من خرج يبحث عن الحقيقة حكم على نفسه بأن يبقى دائماً فى الطريق"، ويقول أندريه موروا: "تنكشف الأخلاق في ساعة الشدة". ويقول ألبرتو مورافيا: "إذا أردت أن تعرف أخلاق رجل فضع في يده سلطة ثم انظر كيف يتصرف"، ويقول سقراط: "التربية الخلقية أهم للإنسان من خبزه وثوبه"، ويقول سعد زغلول: "نحن لسنا محتاجين إلى كثير من العلم، ولكننا محتاجون إلى كثير من الأخلاق الفاضلة". ويقول مصطفى السباعي: "الأخلاق أولاً ثم العلم والكفاءة، هذا هو مفتاح السعادة للأفراد والحكومات والجماهير"، ويقول عبد الكريم بكار: "إن أفضل طريقة للدفاع عن الأخلاق هي أن نتمثلها في سلوكنا اليومي". فقط الحمار هو مَن يصدق أن المحاربة من أجل الوطن تكون عبر الأسِرَّة والعمليات القذرة.. سيظل دائماً الفيصل بينك وبين كل الأخطاء التي تقوم بها هو حجم إدراكك لارتكابك لهذه الأخطاء.. البعد الأخلاقي ورؤيتك الخاصة لما تفعل.. قدرتك على ثباتك على مبادئك في عز الصعاب. لسّه يا أرض الكنانة.. ريحة الخوف والعَطن.. مالية دربك بالخيانة.. ردّي مرّة وطمنيني.. وارسمى الأحلام لعيني.. سكّة جاية ودرب سالك.. جنّبيني موج مهالك.. واحضنيني وفهّميني.. يعني إيه كلمة وطن؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :