أشار الدكتور عبد الوهاب المسيري في المجلد السادس من موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية» التي ألفها قبل رحيله بسنوات عدة، إلى أن صهاينة بريطانيا نجحوا في إصدار تصريح بلفور في 2-11-1917، ولم يكن مرد ذلك ثراءهم آنذاك أو وجود لوبي يهودي ضاغط، فالضغط اليهودي كان عنصراً ثانوياً في إصدار الوعد المذكور، وإن تفسير النجاح اليهودي في بريطانيا وفشله في ألمانيا لا يتم بنقاش القوة والضعف الذاتيين للحركة الصهيونية، ولكن بالعودة إلى المصالح الإستراتيجية الغربية في زرع دولة استيطانية وسط العالم العربي. ومع إصرار الحكومة البريطانية على الاحتفال بالذكرى المئوية لوعد بلفور بعد غد الخميس في 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، يمكن الجزم بأن بريطانيا الرسمية تتنكر لحقوق الفلسطينيين ومعاناتهم المستمرة منذ إنشاء إسرائيل في عام 1948، والذي أسس له الوعد البريطاني المشؤوم. يجمع المتابعون لاتجاهات تطور القضية الفلسطينية على أن إصدار وعد بلفور قبل 100 عام، أسس لمأساة الشعب الفلسطيني، المستمرة بفصولها المختلفة، حيث تمّ طرد غالبيته من أرضها، ناهيك عن إنشاء إسرائيل على 78 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية. وكان هذا الوعد الذي أدخل في صك الانتداب البريطاني على فلسطين في ما بعد ضد إرادة عرب فلسطين، بداية سلسلة أحداث أدت في النهاية إلى اغتصاب وطن وتشريد شعب بكامله على نحوٍ لا سابق له في التاريخ البشري. ثمة دوافع متشعبة لإصدار وعد بلفور، بيد أن الثابت والأكيد أن السبب الرئيسي هو تحقيق هدف غربي، بدأ بسياسة رئيس وزراء بريطانيا بالمرستون، الذي دعا عام 1839 إلى زرع كيان يهودي استيطاني في فلسطين، ليكون حاجزاً بين مصر والمشرق العربي، على اعتبار أن ذلك يشكل قلعة أمامية ضد التحرر والتطور في المنطقة العربية، تلك السياسة التي تبناها جميع قادة الإمبراطورية البريطانية منذ بالمرستون، حيث نجم عنها، في نهاية المطاف، إصدار وعد بلفور، وعندما صدر أثناء الحرب العالمية الأولى، كانت القوات البريطانية تحارب للاستيلاء على فلسطين من الدولة العثمانية. أرادت بريطانيا أن تحكم فلسطين لموقعها قرب قناة السويس التي تصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر. واعتقد البريطانيون أن وعد بلفور سيساعد على كسب التأييد لهذا الهدف من زعماء اليهود في بريطانيا والولايات المتحدة وفي دول أخرى، وفي عام 1922 صادقت عصبة الأمم على وعد بلفور، وأعطت بريطانيا حق الانتداب على فلسطين. والثابت أن بريطانيا احتلت فلسطين بعد شهر من إصدار هذا الوعد، وبدأت بتحويله واقعاً ملموساً على الأرض، بتشجيع الهجرة اليهودية، وسن تشريعات تمكّن اليهود من السيطرة على الأرض الفلسطينية. ومهدت بريطانيا لهذا الاحتلال باتفاقية سريّة أبرمتها مع فرنسا عام 1916، لتقسيم الأراضي العربية بينهما، خلافاً لعهود قطعتها للشريف حسين بمنح العرب الاستقلال في دولةٍ تمتد من تركيا حتى بحر العرب، وتشمل بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية، باستثناء جنوب اليمن، إذا ثار العرب على الدولة العثمانية. وبالفعل، أعلن الشريف حسين الثورة على تركيا، تنفيذاً لما اتفق عليه مع بريطانيا، في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا وفرنسا تتباحثان على تقسيم المنطقة، وهي مباحثات أسفرت عن إبرام اتفاقية «سايكس– بيكو» التي صنفت فلسطين منطقة دولية، قبلت فرنسا في ما بعد بوضعها تحت النفوذ البريطاني. هذا التاريخ سبقته جهود كبيرة بذلتها الحركة الصهيونية بقيادة تيودور هرتزل، الذي يُعتبر الأب المؤسس لدولة إسرائيل. ونجحت هذه الجهود في دفع الحكومة البريطانية إلى تبني المطالب الصهيونية بإنشاء دولة لليهود في فلسطين. اتخذت الخطوات البريطانية لتأسيس دولة لليهود أبعاداً عملية بإنشاء الفيلق اليهودي، وتزويده بالأسلحة والمعدات وتدريب عناصره على القتال، وشرعت بمصادرة الأرض وتشريع القوانين وبناء المؤسسات الصهيونية، واعتقال الفلسطينيين المعارضين، وشهدت فلسطين عمليات مسلحة وانتفاضات وثورات ضد الاحتلال البريطاني واليهود، وكانت انطلاقة العمل المسلح المنظم عام 1919 عبر جمعية «الفدائية»، إلا أن بريطانيا تصدت لهذه الجمعية وأجهضتها. وفي عام 1920، اندلعت انتفاضة في القدس، يمكن اعتبارها أول انتفاضة شعبية في تاريخ فلسطين الحديث، حيث لعب الحاج أمين الحسيني دوراً مهماً في إشعالها، ففرضت السلطات البريطانية الأحكام العرفية، وحكمت بالسجن 10 سنوات غيابياً على الحاج أمين، إلا أنه لم يسجن. ثم توالت الانتفاضات الفلسطينية بعد ذلك، مثل انتفاضة يافا عام 1921 ضد الهجرة اليهودية، ثورة البراق عام 1928، التي اندلعت عندما حاول اليهود تحويل حائط البراق إلى كنيس يهودي، وفي العام التالي، تصدى الفلسطينيون لليهود الذين نظموا تظاهرات في القدس، اتجهت إلى حائط البراق ورفعوا العلم الذي صار علم إسرائيل، ووقعت صدامات عنيفة في فلسطين، أسفرت عن سقوط 116 شهيداً فلسطينياً، معظمهم قتلوا برصاص القوات البريطانية، وانطلقت ثورات متتالية وصولاً إلى إضراب عام 1936 في محاولةٍ لإحباط إنشاء دولة صهيونية في فلسطين. ووصلت الثورات الفلسطينية ذروتها عام 1938، فسارعت بريطانيا إلى إرسال قوات ضخمة إلى فلسطين، وأعادت احتلال المناطق التي حررها الفلسطينيون، باستخدام كل ترسانتها العسكرية، من طائرات ودبابات ومدفعية، وقتلت كثيرين من قادة الثورة، ما أفقدها زخمها عام 1939 بعد ثلاث سنوات من المقاومة الفلسطينية، ضد أكبر إمبراطورية في ذلك الحين. في هذا الوقت، كانت الأموال الأميركية والبريطانية والغربية تتدفق إلى فلسطين، لتمويل بناء «الوطن القومي اليهودي»، بل إن آرثر بلفور صاحب الوعد بإقامة دولة لليهود في فلسطين، افتتح بنفسه الجامعة العبرية في القدس عام 1925، واستمرت بريطانيا بالعمل على توفير كل ما من شأنه تحويل وعد بلفور إلى واقع حقيقي للدولة اليهودية، وتوّج الأمر بإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في 29-11-1947 قضى بتقسيم فلسطين دولتين، واحدة لليهود وأخرى للفلسطينيين. في 15 أيار (مايو) 1948 انسحب الجيش البريطاني من فلسطين، ليسلم أراضيها إلى العصابات الصهيونية شتيرن وهاغانا وأرغون، ولتبدأ فصول المأساة الفلسطينية، حيث ارتكبت تلك العصابات عشرات المجازر بحق الفلسطينيين، ما دفع 61 في المئة منهم للهرب إلى خارج فلسطين، ومع استمرار إسرائيل في سياساتها، تكرر مشهد الطرد في 1967 إبان احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث طرد الجيش الإسرائيلي 460 ألف فلسطيني، ليطلق عليهم لقب نازحين، وليصبح 70 في المائة من إجمالي الشعب الفلسطيني ضحايا الترانسفير الإسرائيلي المبرمج ، والذي كان من النتائج الكارثية لوعد بلفور قبل مائة عام خلت. * كاتب فلسطيني
مشاركة :