العاصمة الجديدة: حلم العيش بعيدا عن القاهرة وعشوائيتها وزحامهايصف قطاع كبير من المصريين العاصمة الإدارية الجديدة التي يتم تشييدها شرق القاهرة، بأنها مشروع مجتمع جديد للأغنياء فقط، بعد ارتفاع أسعار الوحدات السكنية بما يفوق قدرات الطبقة المتوسطة. ومتوقع أن يعيش متساكنو المنطقة في مجتمع مغلق على نفسه، لأن فكرة المشروع تقوم على تزويد العاصمة بكل ما يضاعف من علامات تحصينها أمنيا وإداريا ممّا يجعلها مختلفة عن تجارب نقل العواصم في بلدان عديدة في العالم، والتي تم الإعداد لها جيدا بما يلبي حاجات المجتمع كله وليس شريحة واحدة.العرب محمد حماد [نُشر في 2017/10/31، العدد: 10798، ص(7)] أحلام تتحطم على صخرة الواقع القاهرة – لغط كبير يصاحب كل حديث أو خبر عن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في مصر. وما انفك الحديث عن “القاهرة” الثانية يثير الجدل منذ أن كانت، في عهود سابقة، فكرة فرضها الضغط المتزايد على القاهرة إلى أن تحولت إلى مشروع يبدو في ظاهره حلا واقعيا للتخفيف من الضغط عن العاصمة، لكنه يحمل وراءه الصور الجميلة التي تعكسها الرسوم البيانية للصحراء التي ستتحول إلى فردوس. تجدد الجدل مؤخرا مع الإعلان رسميا عن بدء نقل الوزارات الحكومية إليها مع مطلع 30 يونيو 2019. وبين مجموعة متفائلة بهذا المشروع وأغلبية لا تزال تشكّك في قدرته على استيعاب فكرة “العاصمة” لا التجمع الإداري والسكني الفاخر والمعزول، تمضي عمليات البناء والتحضيرات وبيع الأراضي. وفي خضم هذه الأجواء، كانت لـ“العرب” زيارة ميدانية إلى الموقع حيث تجري أعمال البناء وتجهيز العاصمة الإدارية الجديدة لمصر، والتي لم يحدد لها اسم بعد. أعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن تدشين العاصمة الإدارية خلال مؤتمر مصر الاقتصادي في مارس 2015 على مساحة 170 ألف فدان. وتقع على بعد 45 كيلومترا عن القاهرة القديمة. وربط بين إنشاء هذه العاصمة وتخفيف الضغط على القاهرة وتوفير الأمان للمسؤولين وضيوفهم. لكن المؤشرات الحالية لعملية البناء توحي بأن ما يتم تشييده يشبه قلعة أو مجتمعا حضاريا يحاول أن يكون منغلقا على نفسه. شاهدتُ خلال الزيارة قدرا من الجدية في العمل. لكن، ذلك ليس كافيا للقطع بأن البناء يمكن أن ينتهي عند التاريخ المعلن عنه، فالبنية التحتية تواجهها عثرات كبيرة وعملية توفير التمويل اللازم غامضة. كما لم تكن تصريحات المسؤولين والقائمين على المشروع كافية لتثبت أن العاصمة الجديدة صممت لتستوعب كافة شرائح المجتمع، وأن المشروع الذي مازال البعض يصفه بـ”الخيالي” ليس “يوتوبيا” خاصة بفئة محددة من المصريين والأجانب الذين يزورونها أو يعيشون فيها لضرورات وظيفية. تستهدف مصر في الظاهر نقل نحو 6.5 ملايين نسمة إلى العاصمة الإدارية، بهدف تخفيف الزحام عن القاهرة، بعد نقل جميع الوزارات والهيئات الحكومية، لكن في الحقيقة ما تقوم به سيؤدي إلى ظهور مجتمع محصن ومختلف عن النمط السائد في البلاد. وتجلب الفكرة، بما تحمله من إغراءات سكنية وأمنية ووظيفية واجتماعية، اهتمام الكثير من المصريين، الذين يحلمون بالعيش بعيدا عن القاهرة وعشوائيتها وزحامها. لكن تحقيق هذا الحلم لن يكون في متناول الجميع. وتعبر عن هذا الواقع إيمان محمد، موظفة بوزارة التخطيط، التي قالت لـ“العرب” إنها بدأت رحلة البحث عن سكن بالعاصمة الإدارية، بدلا من سكنها الحالي بحي حدائق القبة، وهو ما يستغرق وقتا طويلا، يتجاوز الأربع ساعات ذهابا وإيابا.حمدي عتمان: عمارة المدن الجديدة تصل إلى 20 عاما ونقل الوزارات لا يعني تعميرها بالكامل وأضافت إيمان أن أسعار الوحدات السكنية بالعاصمة الإدارية مرتفعة جدا، ويصل سعر الشقة ذات مساحة 70 مترا إلى نحو مليون جنيه، أي ما يعادل نحو 57 ألف دولار، وهو ما يجعل العاصمة الجديدة مقرا أو مجتمعا للأغنياء فقط. لكن هذا المبلغ يفوق قدراتها المالية، لأن راتبها الشهري لا يتجاوز 3500 جنيه (200 دولار)، فمن أين تدفع قيمة الشقة، وكيف تتدبر ثمن المواصلات، وما إلى ذلك من مصاريف. ويدفع الفرق بين الحلم والواقع إيمان شأنها شأن الأغلبية إلى القول إن “الحكومة تريد أن تنشئ مدينة على مقاس الأثرياء، وتشكل طبقة تستطيع التعايش مع الغلاء، وهو ما يعني أن البسطاء لن يكون لهم مكان في العاصمة الجديدة”. الاستعداد للرحيل تقوم وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري بحصر الإدارات التي سيتم نقلها بالاتفاق مع الوزراء ومسؤولي الهيئات وإعداد الموظفين الذين سيتم نقلهم إلى العاصمة الإدارية. ووضعت الحكومة حزمة من الشروط للنقل إلى العاصمة الإدارية، منها ألا يزيد عمر الموظف أو الموظفة عن 45 عاما، فضلا عن إجادتهم اللغة الإنكليزية، والمهارات التي تمكنهم من التعامل مع التكنولوجيات الحديثة، لأن كافة المرافق بالمشروع صممت وفق مفهوم المدن الذكية. ومن المقرر أن يتم نقل نحو 50 ألف موظف من جميع الوزارات فقط، بالتالي لن يتم نقل الوزارات بالكامل، وهو ما أكده الرئيس المصري خلال وضعه حجر أساس المدينة وافتتاحه لفندق الماسة بالمدينة مؤخرا. وقال حسين توفيق، موظف بوزارة الاستثمار، “قررت منذ الإعلان عن نقل الوزارات إلى العاصمة الإدارية شراء قطعة أرض بمدينة بدر التي تقع على بعد خمسة كيلومترات من العاصمة الإدارية لبناء وحدات سكنية لي ولأبنائي، قبل أن تشتعل أسعار العقارات مع اقتراب تنفيذ عمليات النقل”. وأوضح لـ“العرب” أنه قام ببيع جميع ما يملك لتنفيذ هذه الفكرة، لكن المشكلة الوحيدة التي تؤرقه هي نقل أبنائه من المدارس الحالية إلى المدارس الجديدة بالعاصمة الإدارية، لأن كافة المدارس بالمنطقة الجديدة من الفئة الدولية، ذات المصاريف المرتفعة والتي لا تقوى عليها إلا فئات محددة.مشروع لا يستوعب مشاكل 9.5 ملايين ساكن من سكان القاهرة وتتراوح قيمة الالتحاق بالسنة الأولى الابتدائي بين 15 و20 ألف دولار في العام الدراسي الواحد، وزاد الإقبال عليها، وهي من العلامات الدالة على أن مجتمعا جديدا ينشأ في مصر سمته أنه يحاول الانغلاق على نفسه، من خلال الاشتراك في نمط تعليمي واحد وعمل واحد ووحدات سكنية واحدة. وحصلت نحو 16 مدرسة دولية على تراخيص البناء بالعاصمة الإدارية، فيما هناك صنف انتظار به نحو 8 مدارس أخرى تسعى للحصول على تراخيص البناء ضمن المشروع. وتستهدف 18 جامعة من الجامعات الأجنبية بمصر الحصول على قطع أرض لبناء مقرات جديدة لها بعد الموافقة على التراخيص لنحو ست جامعات حاليا. لا يخفي أحمد زكي عابدين، رئيس مجلس إدارة شركة العاصمة الإدارية الجديدة أن المشروع في جزء منه هو “مدينة الأغنياء”. ويقول لـ“العرب”، “المرحلة الأولى من تنفيذ المشروع للأغنياء والمستثمرين فقط”. ويبرر ذلك بأن الرئيس المصري أكّد عدم تحمل ميزانية الدولة لأي أموال لبناء العاصمة الإدارية، لذلك فإن أسعار الأراضي مرتفعة، وتتم إعادة تقيمها كل ثلاثة أشهر. ووصلت أسعار البيع للمطورين العقاريين حاليا بنحو 3500 جنيه للمتر (200 دولار). ويضيف عابدين أن معدلات الطلب على شراء الأراضي في ارتفاع مستمر، كاشفا عن واقعة لأحد المستثمرين الذين قاموا بشراء 200 فدان، ثم قام ببيعها للمواطنين بأكثر من 12 ألف جنيه للمتر (700 دولار)، قبل أن يصدر له قرار وزاري برخصة بناء على هذه الأراضي. وتقدم نفس المستثمر لشراء 200 فدان أخرى وتم تخصيصها على الفور له رغم تلك المخالفة.ناصر صابر: مطلوب تخصيص أراض للمصريين بالخارج للمشاركة في التعمير وتقوم وزارة الإسكان بالتعاون مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ببناء نحو 50 ألف وحدة سكنية مناصفة. وبلغت نسبة تنفيذ الوحدات السكنية التي تنفذها وزارة الإسكان نحو 40 بالمئة، فيما وصلت تلك النسبة للهيئة الهندسية إلى نحو 30 بالمئة. حاول عابدين طمأنة الموظفين الذين سيتم نقلهم وأنهم سوف يمنحون وحدات سكنية بنظام التمويل العقاري، لكنه قال “وجدنا أن الموظف سيتحمل قسطا شهريا يبلغ نحو 1200 جنيه (70 دولارا)، ما يمثل عقبة لدى البعض، لذلك ستكون عمليات النقل اختيارية”. وحتى الآن لم يتم إطلاق اسم على العاصمة الإدارية، أسوة ببعض المدن التي كان من المخطط أن تكون عاصمة بديلة، مثل مدينة السادات أو 6 أكتوبر أو العاشر من رمضان وامتداد كل منها، والتي كان يسعى الرئيس المصري الراحل أنور السادات أن تكون بدائل لتخفيف الزحام والتمهيد لجعلها بدائل للقاهرة، لكن الفكرة لم تكتمل بسبب العشوائية وسوء التخطيط، وتحولت هذه المدن إلى مجتمع حافل بالثغرات والأزمات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية. وقال عابدين لـ“العرب”، “لم نفكر في تغيير الاسم حتى الآن لكن إذا تقدم أحد باسم أفضل من الممكن أن ندرسه في مجلس إدارة الشركة، فأولويات العمل حاليا هو بناء وتعمير المدينة، ومن الممكن أن ننظر في الأمر لاحقا”. وأسست وزارة المالية والإسكان والهيئة الهندسية للقوات المسلحة شركة جديدة تحت مسمى “نقل الأصول”. تحل هذه الشركة قضية المقرات القديمة للوزارات والهيئات التي سيتم نقلها، على أن تقوم وزارة المالية بتقييم أسعار المباني. وتؤول ملكيتها إلى شركة العاصمة الإدارية، مقابل حصول الوزارات على المقرات الجديدة دون مقابل. وحل هذا الإجراء عمليات تمويل بناء حي الوزارات الذي تقدر تكلفته بنحو 35 مليار جنيه (ملياري دولار). وكان من المقرر أن تقوم شركة إعمار الإماراتية ببناء ذلك الحي بعد توقيع رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار مذكرة تفاهم خلال مؤتمر مصر الاقتصادي في مارس 2015 لتنفيذ المشروع، إلا أن مفاوضات العبار مع وزارة الإسكان لم تكتمل. وباتت لعنة التمويل تطارد المشروع بعد فشل مذكرة التفاهم مع الشركة الصينية العامة للهندسة الإنشائية، إلى أن تمت الاستعانة بالهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة لإنقاذ مشروع العاصمة الإدارية الجديدة.الموظفون يبحثون عن بدائل بالمدن المجاورة وطالب ناصر صابر، رئيس المجموعة المصرية الأميركية في نيويورك ونيوجرسي، بتخصيص أراض للمصريين بالخارج للمساهمة في تعمير العاصمة الإدارية. وقال لـ“العرب” إننا على استعداد تأسيس شركة للاستثمار في هذا المشروع، لكن من المطلوب الشفافية من جانب الحكومة في تحديد الأسعار وعدم المغالاة على المصريين بالخارج. النهر الأخضر يثير النهر الأخضر الذي يبلغ طوله 15 كيلومترا وعرضه بين 600 إلى 1000 وتحيط به الأشجار، عددا من المشكلات، فلم يتم حسم توصيل المياه إلى المدينة حتى الآن. وقالت مصادر رسمية لـ“العرب”، “إنه تم الاستقرار على تغذية المدينة بالمياه من نهر النيل، بدلا من عمل محطة لتحلية المياه في منطقة العين السخنة على البحر الأحمر”. وترفض وزارة الري بالبلاد هذا المقترح لأن المخطط النهائي للمدينة يؤكد أنها تحتاج إلى مليون متر مكعب من المياه، فضلا عن ري النهر الأخضر إلى حين عمل محطات معالجة للصرف الصحي وإعادة ري هذا النهر بالمياه التي تتم معالجتها. وأوضح حمدي عتمان، رئيس لجنة الإسكان بجمعية مستثمري العاشر من رمضان، إن مدة تعمير المدن الجديدة تصل إلى نحو 20 عاما، بالتالي فإن نقل الوزارات إلى العاصمة الإدارية لا يعني أنه تم تعميرها بالكامل. وأشار لـ“العرب” إلى أن استغلال مباني الوزارات القديمة والهيئات سيكون وفق مواقعها وتصميمها، فمثلا مجمع المصالح في ميدان التحرير ووزارتا الخارجية والموارد المائية والري من الممكن أن يتم استغلالها كفنادق عالمية نظرا لمواقعها الجغرافية على النيل وفي قلب القاهرة، أما أبراج وزارة المالية فمن الممكن تحويلها إلى أبراج إدارية ومقرات لشركات عالمية. ومن المتوقع أن تتسبب عمليات إخلاء هذه المباني في عدد من المشكلات، لأن الإدارات العليا التابعة للوزير ستنقل إلى العاصمة الإدارية أما باقي الإدارات الخدمية المرتبطة بالمواطنين فلم يتم تحديد الأماكن التي تنقل إليها لاستغلال المباني بالكامل كفنادق أو مقرات إدارية، وهو ما يرسخ فكرة تخصيص العاصمة الجديدة لشريحة من ميسوري الحال. وفكرة المجتمع الجديد والمنغلق تكرس واقع الطبقية بوجود عاصمتين، عاصمة جديدة بخدمات خمسة نجوم للأغنياء والبعض من الطبقة المتوسطة من الموظفين المرتهنين للبنوك وقروضها، والعاصمة القديمة التي ستبقى بمشاكلها وأزماتها وعشوائيتها. وتطرح أيضا المباني التاريخية، مثل مجلسي النواب والوزراء بوسط القاهرة، التي لم يتم حتى الآن تحديد كيف سيتم تحويلها إلى مباني ذات عائد لشركة العاصمة الإدارية الجديدة.أسعار الشقق تبدأ من 700 دولار للمتر يرى هاشم السيد، الرئيس التنفيذي لشركة المصريين للإسكان والتعمير، أن عمليات إخلاء مقرات الوزرات تنعش فكرة إحياء الصناديق العقارية بالمشاركة بين الحكومة والقطاع الخاص، بحيث تقوم تلك الصناديق التي يديرها خبراء ومتخصصون بتحديد الاستغلال الأمثل لتلك المباني وتطويرها. وأكد أن ذلك يتطلب وجود مطور عقاري وشركة إدارة ومدير استثمار وخدمات إدارية وهذه الضوابط تتوافر في الصناديق العقارية بشكل محترف. في سنة 2008 أصدر الروائي المصري أحمد خالد توفيق، راوية حملت عنوان يوتوبيا، تدور أحداثها في سنة 2023 وتتحدث عن مدينة تقع في الساحل الشمالي محاطة بسور ويحرسها جنود ينعزل فيه الأغنياء. وخارج أسوارها توجد مدينة أخرى سكانها فقراء وأحياؤها عشوائيات. اليوم، يستحضر الكثير من المصريين أحداث هذه الراوية ويقارنون بين الواقعين (الروائي والحاضر) بينما مشروع العاصمة الجديدة يمضي قدما دون أن يضمن له أن يكون مدينة فاضلة، وفيما تعوق تحوله إلى مجتمع حضاري يكون واجهة لمصر فكرة الأمن المرتبطة بالفصل بين طبقات المجتمع. قد يؤدي سوء التخطيط إلى الفشل ويعيد تكرار تجارب سابقة في مدن عديدة كانت مرشحة للدور ذاته، مع ذلك يبقى هناك أمل عند رؤية العمال في حظائر البناء والإعلانات التي تحوّل المستحيل إلى ممكن في أن تكون العاصمة الإدارية الجديدة عاصمة لمصر وليست “قاهرة” خاصة بمصريين دون آخرين.
مشاركة :