الشارقة: عثمان حسن اختار معرض الشارقة الدولي للكتاب الدكتور محمد صابر عرب شخصية العام الثقافية، تقديراً لمكانته الفكرية، فهو يعد من أبرز المثقفين العرب، وقد صدر له العديد من المؤلفات والأبحاث التي تجمع بين التاريخ والتراث والمعاصرة، إلى جانب مشاركته في كثير من الملتقيات والمؤتمرات العربية والدولية المتخصصة.د. محمد صابر عرب هو أيضاً صاحب خبرة أكاديمية، حيث سبق له أن درس في العديد من الجامعات، كأستاذ لتاريخ الأدب الحديث في جامعة الأزهر، كما تقلد مناصب كثيرة أبرزها منصب وزير الثقافة في ثلاث حكومات متعاقبة.جمع الدكتور صابر عرب بين التاريخ، والأدب، والفكر، في شخصية رفيعة المستوى غلب عليها الاهتمام بالقضايا العربية، والسعي إلى تطوير العمل الثقافي، وتعزيز علاقات مصر مع كل الجهات الثقافية الفاعلة، متمتعاً بنظرة تاريخية متعمقة تنادي بالمحافظة على ثوابت العروبة في مواجهة التحديات المعاصرة.«الخليج» حاورت د. محمد صابر عرب، الذي عبّر عن سعادته باختياره شخصية المعرض لهذه الدورة، كما تحدث عن أهمية الثقافة والفنون والآداب لصناعة جيل مؤمن بقدرته على التطوير، كما أكد ضرورة الاستثمار الحقيقي في الإنسان وعياً وفكراً وتعليماً وتسامحاً. كيف تلقيت خبر تكريمك في معرض الشارقة للكتاب؟- تلقيته بقدر كبير من السعادة والبهجة، لأنه يأتي من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ذلك المثقف الذي يحظى بكل التقدير والمحبة والاحترام، نتيجة للدور الكبير الذي يقوم به في خدمة الثقافة على كل المستويات في الأدب والفكر والمسرح والفن التشكيلي، وقبل ذلك كله في مشروعه الرائع في التعليم على اعتبار أن التعليم والثقافة هما عملة ذات وجهين، وقد أدرك صاحب السمو حاكم الشارقة منذ بداية مشروعه مطلع السبعينات أهمية الثقافة والتعليم، وها نحن الآن نحتفي بالشارقة عاصمة للثقافة بكل فنونها ومجالاتها، وأعتقد أن هذا الاستثمار هو الاستثمار الحقيقي، لأنه يستهدف الإنسان وعياً وفكراً وتعليماً وتسامحاً.ما رأيك في مسيرة معرض الشارقة للكتاب؟- أتابع المعرض منذ بداية انطلاقته، وكنت ألاحظ كل عام تطوراً كبيراً في كافة المجالات، يبدو ذلك في حرص الناشرين من الوطن العربي والعالم على حضور هذا العرس الثقافي، فضلاً عن البرامج الثقافية الفنية التي تجذب قطاعاً كبيراً من المثقفين والكتّاب من كل أنحاء العالم، واليوم أصبح المعرض عنواناً كبيراً في مقدمة معارض العالم، حيث يتردد عليه هذا الكم الهائل من مواطني وقاطني الإمارات ومن الدول المجاورة الخليجية والعربية فضلاً عن الأجانب.مارست العمل الثقافي الرسمي كوزير للثقافة في مصر، كما كنت وما زلت فاعلاً في حقل النشاط الأكاديمي والفكري.. كيف وفّقت بين الأمرين؟.- أعتقد أن القصة بدأت منذ وقت مبكر، فأنا منذ الصغر وأنا معنيّ بالثقافة والفنون، أتذوقها وأتابعها في كافة الأشكال من (مسرح وسينما وفن تشكيلي وأعمال روائية للشباب وجيل المخضرمين)، الأمر الآخر، هو أنني حين كنت طالباً، كنت أمارس النشاط الطلابي، وكنت رئيساً لاتحاد الطلاب في الجامعة، وهذه كلها شكلت شخصيتي كما شكلت تكويني الثقافي بشكل عام.في مرحلة لاحقة، تخصصت بالتاريخ، وأنت تدرك العلاقة الوطيدة بين التاريخ والثقافة، بعد ذلك خلال عملي في الجامعة قمت بإدارة العديد من المؤسسات الثقافية الكبيرة من بينها: دار الوثائق القومية، والهيئة العامة للكتاب، ودار الكتب المصرية، كما كنت عضواً في العديد من المؤسسات الثقافية والاجتماعية في مصر وفي بعض الدول العربية.من هنا، فأنا لم أجد تعارضاً بين كوني أكاديمياً وبين إداراتي للعديد من المؤسسات الثقافية.بوصفك أحد أهم الباحثين في التاريخ في الوطن العربي، كيف ترى ما يثيره الكثيرون - من غير ذوي التخصص- في رؤيتهم للتاريخ سواء كانوا كتّاباً أو مؤلفي دراما؟- ألاحظ أن كتب التاريخ وكتب السير الذاتية للمثقفين والعلماء والقادة أصبحت من الموضوعات التي تحظى بأهمية كبيرة لدى جمهور القراء. لذلك أدرك كتّاب الدراما أهمية التاريخ باعتباره موضوعاً جاذباً، لكنّ المشكلة أن هذا الجمهور يتصور أن الدراما هي التاريخ، هناك فرق كبير بين العمل الدرامي والعمل التاريخي، وهناك كذلك فرق كبير بين ما يتصوره البعض أنه تاريخ من قبيل كتابات الهواة، وبعض السياسيين ممن يقدمون على كتابة التاريخ، مع أن التاريخ أمر يختلف كثيراً، فالتاريخ يعني الوقائع والأحداث فضلاً عن إعمال العقل تحليلاً ونقداً وتفسيراً، وهي أمور لا يقدر عليها إلا المؤرخ الذي درس مناهج النقد التاريخي واقترب كثيراً من الفلسفة، على اعتبار أن الفلسفة هي العلم الذي طوّر كتابة التاريخ، وفق مناهج علمية يفرضها المؤرخ والفيلسوف معاً.جمعت بين التاريخ والتراث من جهة، وبين كثير من خلاصات الفكر العربي الحديث.. كيف ترى العلاقة بين التراث والمعاصرة؟، هل هي علاقة نفور وتضارب، أم هي علاقة تكاملية، ولماذا لم نزل حتى اللحظة نخوض في هذه المسألة؟.- دائما ما تثور معارك بين التراث والمعاصرة أو بين التراث والثقافات الحديثة، المشكلة فيما يتعلق بالتراث أن الذين يعملون في هذا المجال -في معظمهم- يتصوّرون أن كل التراث مفيد، وأن كل التراث يجب أن نبعث فيه الحياة من جديد، ونلاحظ ذلك في كثير من المؤسسات المهتمة بمجالات التراث المختلفة، مع أن هناك تراثاً يمكن أن نسميه ب (التراث العبء) هذا التراث الذي يعطل العقل ويجمد الفكر، ولا يفيد الحياة أو المستقبل.التراث فيه الغث وفيه السمين، نحن معنيون بالتراث الذي يصل ماضينا بحاضرنا، هذا الماضي المضيء الذي عني بالمعارف والعلوم والآداب والفنون، هذا هو التراث الذي يمكن أن نتواصل معه، أما ذلك النوع الآخر من التراث، ذلك الذي يثير الصراع بين المذاهب ويعلي من قدر النص على حساب العقل، ويجمد الفكر، ويعتبر أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، هذا هو تراث عبء يجب أن ننبّه من خطورته.أدوار كبرى للمثقف ما المطلوب اليوم من المثقف لمواجهة الإرهاب؟- هذا سؤال بمثابة السهل الممتنع، فالمثقف عليه دور كبير، أنا ألاحظ أن المثقف لا يزال قابعاً في برجه العاجي يكتب منظّراً ومحللاً، وحتى ناقداً لا ينزل إلى الواقع ولا يقترب من الناس اقتراباً حقيقياً.المشهد الذي نعاصره الآن في عالمنا العربي والمتمثل في شيوع ثقافة التعصب والكراهية والتكفير، هي أمور تستوجب من المثقف أن يقترب من الناس متحدثاً بلغتهم، متعاملاً معهم بقدر بساطتهم، ناقداً بلغة رقيقة هذا السيل المنهمر من الفتاوى والحكايات التي لا أساس لها إلا في عقل هذه الجماعات المتشددة والمتعصبة الكارهة للناس والحياة.وأعتقد أن حل هذه المسألة يأتي بالتعليم، حينما يقترب التعليم من الثقافة والفنون والآداب والمعارف الفنية والثقافية، فضلاً عن تنمية المهارات بين الطلاب، عندئذ لا تكون الثقافة عنواناً مستقلاً عن التعليم، بل هي جزء متداخل ومتناغم مع التعليم.لو أحصينا ما في الحضارة العربية والإسلامية من قيم تسامح ومحبة لوجدنا الكثير، ولكنّ هناك اتهاماً دائماً للمسلمين بالإرهاب أو التطرف، وتوتراً يسود العلاقة بيننا وبين الغرب، هل العلاقة هي علاقة صراع كما بشّر به هنتنغتون، أم هي سوء فهم لا أكثر؟.- هو صراع مفتعل سواء من جانبنا أو من جانب الغرب، المستقبل في العالم كله ملك للجميع، والإنجازات الحضارية في خدمة الجميع، وليس من مصلحة المسلمين ولا غير المسلمين أن يتفاقم هذا الخلاف أو يفتعل هذا الصراع.فنحن في حقب تاريخية كبيرة ماضية، قدّمنا للبشرية خدمات جليلة في كافة العلوم والمعارف، وإذا كنا اليوم نستفيد من حضارة الغرب، فهذه الحضارة هي امتداد لما سبقها من حضارات كنا جزءاً منها.برأيك لماذا لا يزال مفهوم الهوية ملتبساً حتى الآن عند الكثير من الكتّاب والمنظرين؟- أعتقد أنه ليس ملتبساً، لكننا ما زلنا نفتعل هذا الالتباس، فحفاظنا على هويتنا ثقافة ولغة ونمط حياة، لا يتعارض مع الحضارات المعاصرة الأخرى.فمن واجبنا أن نستفيد من هذه الحضارات، ولا تعارض إطلاقاً بين أن نأخذ منها ونطور حياتنا ومؤسساتنا العلمية مع الحفاظ على هويتنا اللغوية والثقافية.وهناك دول كثيرة قطعت شوطاً كبيراً في الحياة المعاصرة، ومع ذلك حافظت على لغتها وثقافتها وهويتها، من قبيل اليابان والصين وسنغافورة وغيرها.تراجع التعليم لماذا تراجع الفكر العربي، وما الذي يمكن تداركه لتضييق الهوة بين الثقافتين العربية والغربية؟.- أعتقد أن الفكر العربي يواجه مشكلات عديدة بين الأجيال الجديدة التي تعلمت في المدرسة والجامعة في العقود الأخيرة، وهذا يعود إلى تراجع التعليم.قد يتصوّر البعض أن التعليم الجيد يعتمد على التمكن من ثقافة العصر التي يقصرها البعض على مهارات الحاسب الآلي، والتعامل مع مواقع التواصل، ولكن كل هذا جاء على حساب القراءة، والتأمل، فلم يعد هناك متسع من الوقت للقراءة بالمعنى الكلاسيكي والمعنى الإنساني، فأصبح الشائع بين الشباب الآن، هو ثقافة استهلاكية لا غير.نلاحظ أن الأجيال القديمة في عالمنا العربي من المثقفين والفلاسفة والفنانين قد أتيح لهم قدر أكبر من التعليم والوقت وهو ما سمح لهم بالتأمل والحوار والتواصل بين بعضهم بعضاً وهو -لأسف- غير موجود الآن.كيف ترى مستقبل الثقافة العربية اليوم؟.- أنا أعتقد أن قطاعات كبيرة من العالم العربي اليوم، قد امتلكت خبرة كافية من المعرفة والعلم، لكن المشكلة الكبيرة والتي تحتاج إلى جهد كبير، هو في هذه الجماعات المتشددة التي استلبت عقول بعض أبنائنا وشبابنا وذهبت بهم إلى عوالم أخرى لا أساس لها بالواقع.وما نشاهده الآن من ظهور مثل هذه الأفكار وهذه الجماعات، هو أمر يعوق تطلعنا نحو المستقبل.أعتقد أن مستقبلنا رهن بالإجهاز على هذه الجماعات المتشددة، فضلاً عن التعليم الذي يجب أن يكون وفقاً لما يحدث في كل بلاد العالم، وفضلاً عن عنايتنا الكبيرة بالثقافة والفنون.إن أمة عمرها يتجاوز ال 1400 عام، لا يمكن أن تخذلها أفكار سامة وقاتلة، ونحن بكل تأكيد سوف نتجاوز مثل هذه المشكلات، وسوف ننطلق نحو المستقبل، والذي يضاعف من اطمئناننا ما نشاهده من نماذج رائعة، لعل الشارقة واحدة من هذه النماذج المضيئة.كتب ودراساتولد د. محمد صابر عرب عام 1948 في مصر، وقد ترأس وزارة الثقافة المصرية، ثلاث مرات في حكومة كمال الجنزوري، ديسمبر 2011، وفي حكومة هشام قنديل، أغسطس 2012 وفي حكومة حازم الببلاوي في 16 يوليو 2013. عمل د. محمد عرب معيداً في قسم التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر ما بين (1974 - 1979)، وقام بتدريس مجموعة من المقررات كتاريخ العرب الحديث في العديد من الجامعات العربية، كما درس تاريخ الخليج العربي، وتاريخ الفكر الأوروبي، وتاريخ العرب المعاصر وأوروبا في التاسع عشر، وتاريخ آسيا الحديث وتاريخ إفريقيا الحديث وتاريخ مصر الحديث والمعاصر وأشرف على 30 رسالة ماجستير ودكتوراه بجامعتي الأزهر ومعهد الدراسات العربية.صدر له العديد من البحوث العلمية منها: (المتغيرات الاجتماعية في المجتمع المصري خلال الحرب العالمية الثانية)، و(نهاية مملكة هرمز 1622)، و (المنهج التاريخي في كتابات المؤرخ العماني سالم بن حمود السيابي)، و (المنهج التاريخي في كتابات المؤرخ العماني حميد بن رزيق)، و (تجارة الخليج العربي في ظل السيطرة البرتغالية)، و (دولة اليعاربة بين الوحدة الوطنية والانتصارات الخارجية)، و (د. محمد حسين هيكل بين الاعتدال والتطرف)، و (مصر والعرب خلال الحرب العالمية الأولى)، و (دور الثقافة العربية في دعم العلاقات العربية العربية)، و (التواطؤ الثلاثي في حرب السويس 1956) وغيرها.أما أبرز مؤلفاته فنذكر منها: (الحركة الوطنية في مصر 1908-1914 / القاهرة 1984)، و(حادث 4 فبراير 1942 والعلاقات المصرية البريطانية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، القاهرة 1985)، و (المدخل إلى تاريخ أوروبا الحديث / دار الثقافة المصرية - القاهرة 1985)، و (تاريخ العرب الحديث / 1989)، و(أربعون عامًا على حرب السويس / مركز الدراسات السياسية الأهرام 1995)، و (وثائق مصر في القرن العشرين / الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية القاهرة 2002) وغيرها الكثير.
مشاركة :