تصادف هذا العام الذكرى السنوية المئة لوعد بلفور الذي أورد فيه وزير الخارجية البريطاني اللورد بلفور في مذكرة لزميله اللورد روتشيلد أن «حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية..». وينظر الصهاينة منذ وقت طويل، إلى هذه الوثيقة على أنها «واعدة»، تمنح السلطة العظمى «ختم الموافقة» لسعيهم إلى إقامة دولة في فلسطين. ولذلك سيحتفلون بهذه الذكرى السنوية. مع أنه لا يوجد، في الواقع، ما يستحق الاحتفال به. إذ لم يكن وعد بلفور سوى عرض مخجل للمصلحة الذاتية المتغطرسة للعقلية الاستعمارية والسلوك العنصري الذي لا يعبأ بحقوق سكان البلاد الأصليين. وفي الواقع، وعد بلفور بإعطاء أرض لا تملكها بريطانيا لطرف ثالث ضد رغبة سكانها. الإعلان لم يأت من فراغ. بل كان له تاريخ وبيئة سياسية وثقافية ترتكز على التقاء العقول لكل من الحركة الصهيونية والمشروع الاستعماري البريطاني. من جانبهم، سعى الصهاينة إلى وطن، حيث يمكنهم بناء مجتمعهم القومي بعيدا عن أوروبا. بعد محاولات فاشلة لزرع جذورهم في مناطق أخرى، سلطوا أنظارهم على فلسطين، التي وصفها أحد زعمائهم، إسرائيل زانغويل، بأنها «أرض بلا شعب.. لشعب بلا أرض». حتى بعد أن أصبح من الواضح جدا أن فلسطين يعيش فيها شعب رفض مشاريع إنشاء وطن لليهود، إلا أن ذلك لم يردع القادة الصهاينة. يقول زئيف جابوتينسكي «إذا كنت ترغب في استعمار الأرض التي يعيش فيها أشخاص آخرون بالفعل، يجب أن توفر حامية أو تجد طرفا مستفيدا للحفاظ على الحامية نيابة عنك.. الصهيونية هي مغامرة استعمارية.. ونجاحها أو فشلها يعتمد على القوة المسلحة». وكان المستفيد هو بريطانيا العظمى. فقد سوّق البريطانيون أنفسهم على أنهم وكيل استعماري مثالي، على حد تعبير ماكس نورداو، «شعب أكثر كدحا، وأكثر قدرة من المتوسط الأوروبي، ناهيك عن الأفارقة الخاملين». ووصف هيرتزل جهوده لإنشاء مستعمرة بأنها يمكن أن تكون «حصن أوروبا ضد آسيا.. وموقعا متقدما للحضارة ضد البربرية». بينما ذهب جابوتنسكي إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول إن «المستعمرين الصهاينة» بوصفهم حاملي الثقافة الغربية المخلصين «سيوسعون الإمبراطورية البريطانية أكثر مما يقصده البريطانيون أنفسهم». في وقت ما.. تشاور هيرتزل مع «الخبير الاستعماري» سيسيل رودس، حول كيفية كسب الدعم البريطاني لهذا المشروع. كان البريطانيون بحاجة إلى القليل من الإقناع. وكان اهتمامهم ينصب على حماية موقعهم في شرق المتوسط، وقناة السويس، والوصول إلى التجارة والموارد في الخليج والشرق. واستنادا إلى نموذجها المتمثل في إنشاء «شركات» لتكون بمنزلة «وكلاء» (كما فعلوا في أفريقيا وجنوب آسيا)، كما وصفها اللورد شافتسبيري في وقت مبكر من عام 1876. وقبل سنوات قليلة من صدور وعد بلفور، كتب محلل عسكري بريطاني بارز يقول إنه «بناء على أسس استراتيجية عامة، من المرغوب فيه جدا أن يتم توسيع حدود مصر الحالية.. وأن تقام دولة عازلة في جنوب سوريا.. وإذا أصبحت هذه الدولة العازلة تابعة لنا أو مستعمرة حقيقية فسوف تكون مصدرا كبيرا للقوة.. والمستعمرون المحتملون الوحيدون الجديرون بالثقة هم اليهود». هذا التوافق بين المخططات البريطانية والصهيونية كان متطابقا جدا، لدرجة أن ماكس نوردو علق على ذلك في وقت لاحق أنه لو لم تكن الصهيونية السياسية موجودة، لكانت «بريطانيا قد اخترعتها». ومع صدور وعد بلفور، أوضحت بريطانيا أنها ليست عازمة على تعزيز وطن يهودي فحسب، بل أكثر من ذلك، جعله موقعا استعماريا من شأنه أن يخدم ويحمي مصالحها في شرق المتوسط. ولم يحظ ما يمكن أن يحدث للسكان العرب في تلك الأرض، بأي أهمية للحكومة البريطانية أو للحركة الصهيونية. فقد جاء في الجزء الثاني من الإعلان أنه «من المفهوم بوضوح أنه لا يجوز القيام بأي شيء قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين». ولكن مع تطور تاريخ تلك المنطقة، أصبح من الواضح أن لا بريطانيا ولا الصهاينة سيسمحون للعرب بأن يقفوا في طريق مشروعهم الاستعماري. د. جيمس زغبي** رئيس المعهد العربي- الأميركي في واشنطن
مشاركة :