يستهلّ الكاتب والاقتصاديّ الأميركيّ روبرت رايش كتابه بعبارة تعود إلى 1812 لصاحبها السياسيّ والكاتب جون تايلور: «هناك طريقتان في غزو المُلكيّة الخاصّة: الأولى، حين يسرق الفقراء الأغنياء... [وهي طريقة] مفاجئة وعنيفة، والثانية، حين يسرق الأغنياء الفقراء، [بطريقة] بطيئة وقانونيّة». وكتاب «إنقاذ الرأسماليّة – من أجل الكثرة، لا القلّة» (إيكون بوكس) إنّما يبغي إنجاز هذا الإنقاذ من الرأسماليّة ذاتها، حين لا تكتفي بسرقة الفقراء بل تهدّد أيضاً نظامها ومنطقها بالذات. ورايش لا يترك مجالاً للشكّ في انحيازه للاقتصاد الناهض على الملكيّة الخاصّة، ولقدراته وفعاليّته، قياساً باقتصاد الملكيّة العامّة، إذ «هل رأيتم شخصاً ينظّف سيّارة يستأجرها؟». لكنّ كتابه المهدى إلى جون كينيث غالبرايث، والذي زكّاه، بين آخرين، اقتصاديّون غالبرايثيّون وكينزيّون كجوزيف ستيغليتز وبول كروغمان، يذكّرنا بواقع النقاش راهناً، والذي بات يدور بين رأسماليّتين: واحدة تحسّن أوضاع البشر وتبني مجتمعات وتوطّدها، فيما تتّسع سوقها وتتعاظم أرباحها، وأخرى تنهش البشر والمجتمعات وتنتهي بنهش نفسها. فاليوم، مع الذكرى المئويّة لثورة أكتوبر الروسيّة (والذكرى الـ68 للثورة الصينيّة)، انحسر النقاش فعلاً وانحصر بين هاتين الرأسماليّتين. فالاقتصاد السياسيّ الماركسيّ لم يعد يملك الحضور الذي عرفه حين كان يعتنقه البلد الأكثر تعداداً في العالم (الصين) والبلد الأكبر مساحة فيه (الاتّحاد السوفياتيّ). لقد صار هذا من الماضي، وإن خلّف الاقتصاد السياسيّ الماركسيّ انتقادات وجيهة يستعين بها نقد الرأسماليّة الإنسانيّة للرأسماليّة المتوحّشة. كائناً ما كان الحال فإنّ الرأسماليّة التي انتصرت في الحرب الباردة ليست بخير أيضاً. إنّها مريضة جدّاً. خرافات في الطريق لكنْ لأنّ كلّ كلام في الرأسماليّة، وتالياً في المُلكيّة، مشوب بخرافات شائعة، كان على الكاتب أن يبدّد، في طريقه، بعضاً منها. وأولى الخرافات تطال الرأي القائل إن «السوق الحرّة» أكفأ من الحكومة. فهو يرى أنّ السجال المذكور عقيم وزائف يحوّل الأنظار عن المسائل الفعليّة. ذاك أنّه، وكما بتنا نعلم منذ توماس هوبز على الأقلّ، ما من سوق حرّة بلا حكومة. فالأولى لا توجد في الغابات وفي ما يتعدّى نطاق الحضارة، فيما التنافس في الغابة تنافس على البقاء ينتصر فيه الأقوى ويُباد الأضعف. في المقابل، فالحضارة إنّما تُعرّف بقوانينها وضوابطها التي تضعها الحكومات وتُحكَم بها الأسواق، أي أنّ الحكومات لا «تتدخّل» في الأسواق، بل تنشىء الأسواق. والحال، وكما يشير المؤرّخ الاقتصاديّ كارل بولانيي، فإنّ الذين يدافعون عن «حكومة أقلّ» إنّما يدافعون عن حكومة «مختلفة»، أي حكومة تقدّم لهم ولأسيادهم الامتيازات، كأن تتيح مثلاً لوول ستريت توسيع حقوق المضاربة وتقليل شروطها. وليس بلا دلالة أنّ أولئك الذين يرفضون «التدخّل» بحماسة، غالباً ما يكونون أصحاب النفوذ والتأثير البالغ على طرق اشتغال السوق. إنّهم روّاد «المشروع الحرّ» حين يجعلون السوق الحرّة مساوية للحرّيّة، فيما يغيّرون بهدوء قوانين اللعبة على النحو الذي يفيدهم. وبهذا نراهم يتشدّدون في الحرّيّة بينما لا يعترفون باختلالات في المجتمع يُحدثونها هم أنفسهم، ويتأتى عنها تآكل قدرة معظم السكّان على ممارسة حرّيّاتهم. هكذا لا ينجب التركيز على ثنائيّة زائفة، كالملكيّة الخاصّة في مقابل الدولة، سوى ترك الثروات تتراكم في أيدي مَن يخربون الملكيّة الخاصّة نفسها فيما يصدّعون الدولة. أمّا الخرافة الأخرى، وهي أميركيّة بصورة خاصّة، فإنّ الملكيّة لا يحدّها حدّ، أي أنّها معطى غير تاريخيّ. والخرافة هذه تهبّ في مواجهة بديهة أساسيّة هي أنّ للتملّك حدوداً. فالمالك، في مجتمع حديث، لا يستطيع أن يملك عبيداً أو سلاحاً نوويّاً أو جينوماً بشريّاً. ولمن يظنّ أنّ البيع والشراء لا يتعلّقان إلاّ بالتوافق على السعر، أي العرض والطلب، فإنّ هذا إنّما يقف عند عتبة بيع الجنس أو الأطفال أو بيع الأصوات في الانتخابات أو الأغذية الفاسدة. وقرارات بهذا المعنى ليست «تدخّلاً» في السوق الحرّة، بل هي هي السوق الحرّة ذاتها، بما ينعكس تحسيناً يطاول حياة الأكثريّة الساحقة من السكّان. فقبل ثلاثة قرون كان شائعاً أن يملك بشرٌ بشراً. ووفقاً لما لاحظه المؤرّخ أدام هوشتشايلد، ففي نهاية القرن الثامن عشر كان أكثر من ثلاثة أرباع البشر الأحياء في العالم مُسترَقّين إمّا كعبيد أو كأقنان. وفي مناطق من الأميركتين وأفريقيا، كان عدد العبيد، وبلا قياس، يفوق عدد الأحرار. لقد استندت العبوديّة إلى نظام سياسيّ لملّاكي وتجّار العبيد يتيح لهم حفظ العبوديّة بوصفها شكلاً من الملكيّة. وفي خمسينات القرن التاسع عشر، تأسّس في الولايات المتّحدة الحزب الجمهوريّ بوصفه أداة المعارضة لملاّكي العبيد الأغنياء وللديموقراطيّين الذين أكّدوا امتلاك العبيد بوصفه حقّاً في التملّك يحميه الدستور. لكنْ خلال 15 سنة، تغيّرت السياسات وتوازنات السلطة، وفي 1865 مُنعت العبوديّة عبر التعديل الرقم 13 على الدستور. فالقواعد التي تحكم اشتغال الملكيّة الخاصّة دائمة التغيّر ودائمة التكيّف، أحياناً بقوّة وصخب، كما في إلغاء العبوديّة، ولكنْ غالباً بخطى صغيرة تكاد لا تُلحَظ خارج دائرة المعنيّين المباشرين. تحطيم النقابات بيد أنّ جعبة الخرافات لا تنضب. فما يشيع اليوم أنّ تفريع الإنتاج إلى بلدان تقلّ فيها الأجور عن أجر العامل الأميركيّ، وعمل الآلات التي يشغّلها الكومبيوتر، بات في وسعهما تقليل أكلاف الكثير من المنتجات. إلاّ أنّ هذين التطوّرين لا يلخّصان كلّ ما حصل ويحصل. فأكثر ما يتعرّض للتجهيل والحجب، ذاك التركّز المتزايد للسلطة السياسيّة في أيدي نُخبة المال والشركات القادرة على التحكّم بقوانين اشتغال الاقتصاد، مقابل التحطيم المتعاظم لسلطة العمل ممثّلةً خصوصاً بالنقابات والتشريع. فهذا ما يفسّر الارتفاع الهائل الذي عرفته مداخيل مديري الشركات الكبرى في مقابل انخفاض الأجور وانكماش فرص العمل في جبهة الخرّيجين الجدد، أو تراجع الأمان الوظيفيّ في الولايات المتّحدة وبريطانيا عمّا كان عليه قبل عقود. أهمّ ممّا عداه أنّ قوّة النخبة الماليّة إنّما تنعكس هي نفسها انحساراً للنقابات في البلدين. فقبل خمسين عاماً، حين كانت «جنرال موتورز» ربّ العمل الأكبر في أميركا، كان العامل المتوسّط فيها يكسب 35 دولاراً يوميّاً بأسعار يومنا هذا. لكنْ في 2014، حين باتت «ولمرت» ربّ العمل الأكبر، بات ما يكسبه العامل المتوسّط 9 دولارات. وهذا ليس سببه العولمة وجديدها، بل الفارق بين وجود نقابة قويّة تدافع عن العامل الأوّل وغياب أيّة نقابة تدافع عن العامل الثاني. ولأنّ مؤسّسات كـ «ولمرت» قاتلت، بالأسنان والأظافر، كلّ عمل نقابيّ لعمّالها، بتنا أمام الواقع التالي: في الخمسينات كان ثلث جميع العمّال في القطاع الخاصّ نقابيّين، والآن تقلّ نسبة النقابيّين عن 7 في المئة. إلاّ أنّ التذرّع بالعولمة والتقنيّة، وهو حجّة لا تخلو من صحّة ووجاهة في بعض قطاعات العمل، يتكشّف عن خديعة حين نلاحظ ما حصل ويحصل في قطاعات كالخدمات أو التمريض أو التعليم ممّا لم يتعرّض للتفريع والمنافسة أو للتحوّلات التقنيّة النوعيّة. فهنا أيضاً لم تكفّ الأجور عن الانخفاض. لقد امتلكت الشركات مزيداً من القوّة فيما استُنزفت قوّة الطبقة العاملة. هكذا تزايدت حصّة أرباح الأولى وتناقصت الأجور في مجمل الاقتصادين الأميركيّ والبريطانيّ. فالعولمة وتفريع الإنتاج وسواهما ليسا ما يفسّر ظاهرة التفاوت إلاّ جزئيّاً. ذاك أنّ ارتفاع عوائد الشركات الكبرى وأرباحها لا يعكس ارتفاع العوائد قياساً برأس المال بمقدار ما يعكس تنامي القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة لتلك الشركات، ومن ثمّ قضمها (الذي جعلته تلك القوّة شرعيّاً) حصّة العمل من الاقتصاد. ففي 2000 مثلاً، كانت حصّة العمل من دخل البيزنس غير الزراعيّ 63 في المئة، لتنخفض إلى 57 في المئة عام 2013، ما مثّل انتقالاً قيمته 750 بليون دولار سنويّاً من حصّة العمل إلى حصّة رأس المال. والعمليّة هذه تساهم في تفسير أحجية أثارتها أطروحة الاقتصاديّ الفرنسيّ توماس بيكيتي في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، لجهة ميل الرأسماليّة الحاليّة إلى توسيع التفاوت. فقد رأى بيكيتي أنّ حصّة رأس المال من الاقتصاد ستمضي في النموّ ما دام عائد رأس المال أكبر من نسب النموّ الاقتصاديّ على مدى زمنيّ طويل. لكنّ ما لم يفعله هو تفسير السبب الذي يحول دون انخفاض عائد رأس المال مع مرور الزمن، إذ القاعدة المألوفة هي أنّه كلّما زادت الثروة التي تتمّ مراكمتها، زادت الصعوبات أمام تحقيق عوائد ربح مرتفعة. كذلك لا تأخذ تلك الأطروحة في حسابها أنّ معظم كبار الأثرياء، أقلّه في الولايات المتّحدة، حصلوا على ثرواتهم في العقود الماضية من العمل، لا من الوراثة. فالتفسير المرجّح إذاً هو أنّ أولئك الذين يسيطرون على حصّة متزايدة من الثروة أحرزوا في موازاتها حصّة متزايدة من النفوذ والسلطة تتيح لهم التحكّم بقواعد اشتغال السوق. الأفق المعتم هكذا نرى الكاتب يسأل قارئه: «هل تذكر زمناً كان فيه دخل أستاذ المدرسة أو الخبّاز أو البائع الصغير أو العامل على آلة متواضعة كافياً لشراء منزل وامتلاك سيّارتين ورعاية عائلة؟ أنا أذكر»، ويروي قصّة والده الذي كان صاحب دكّان يبيع ثياباً نسائيّة لنساء عمّال المصنع. وقد كسب ما يكفي لأن يعيش أفراد عائلته جميعاً بشيء من اليسر والراحة. فهم لم يكونوا أغنياء لكنّهم لم يحسّوا بتاتاً أنّهم فقراء، وعلى مدى الخمسينات والستينات، استمرّ مستوى معيشتهم في الارتفاع. هكذا كان الوضع السائد، وهكذا خلقت الولايات المتّحدة، لثلاثة عقود تلت الحرب العالميّة الثانية، أكبر طبقة وسطى شهدها العالم قاطبة. حينذاك تضاعفت أرباح العامل الأميركيّ قياساً بالسنوات الثلاثين الماضية حيث لم ينعكس تضاعف حجم الاقتصاد على الأجور. وإذا كان الـ1 في المئة الأغنى من الأميركيّين يحظى وقتذاك بما بين 9 و10 في المئة من مجموع المداخيل، بات الـ1 في المئة الأغنى يحظى اليوم بما يزيد عن 20 في المئة. ذاك أنّ الاقتصاد، في الخمسينات، كان يولّد الأمل، وكان مردود العمل الشاقّ يظهر واضحاً، فيما شكّل التعليم الأداة الفعّالة في إحداث حراك اجتماعيّ صاعد، أمّا أولئك الذين يقدّمون الإسهامات الأكبر فكانوا يحصلون على المقابل الأكبر. بهذا كان النموّ الاقتصاديّ يخلق فرص عمل جيّدة أكثر فأكثر، كما تتحسّن مستويات المعيشة عند أغلب الناس، ويحظى أبناؤهم بحياة أفضل من حياتهم هم. لقد كانت اللعبة محكومة بقواعد عادلة، وهو ما تغيّر اليوم كلّيّاً. فالثقة بالنظام الاقتصاديّ انخفضت على نحو حادّ، والغالبيّة صارت تراه سيّئاً ومحابياً للأغنياء وحدهم. والحال أنّ الرأسماليّة إنّما تنهض على الثقة. فمن دونها يتجنّب الناس المجازفات الاقتصاديّة التي لا بدّ منها، كما يقودهم الارتياب بالنظام إلى الظنّ بأنّه ما دام «الكبار» ينجون من العقاب على احتيالهم، بطرقهم «الكبرى»، فلماذا لا ينجو «الصغار» بطرقهم «الصغرى»؟ وانتشار ظنون كهذه لا يفعل إلاّ إضعاف الثقة بالنظام الاقتصاديّ عموماً. فوق هذا، وأخطر منه، أنّ اليأس من النظام يدفع أعداداً متعاظمة للوقوع ضحيّة الشعبويّين بألسنتهم الجذّابة وأفكارهم الخاوية. وفي المعنى هذا لم يعد الخطر على الرأسماليّة يتأتّى اليوم من الشيوعيّة أو الفاشيّة، بل من تآكل متعاظم في الثقة التي تحتاج إليها المجتمعات الحديثة على نحو ماسّ من أجل أن تستقرّ وتنمو. أيّ انقسام سياسيّ؟ إنّ الناس يملكون القوّة التي تتيح لهم أن يغيّروا هذا كلّه، وأن يعيدوا خلق اقتصاد يعمل لمصلحة الأكثريّة لا الأقليّة فحسب. فعلى عكس ما قاله كارل ماركس، ليس هناك في الرأسماليّة ما يقود حتميّاً إلى اختلال اقتصاديّ متعاظم ومصحوب بلامساواة متفاقمة. ذاك أنّ القواعد الأساسيّة للرأسماليّة ليست منحوتة في الصخر. إنّها ما يكتبه البشر وما يطبّقه البشر. لكنْ لكي نحدّد ما الذي ينبغي تغييره، ولكي نغيّره، ينبغي أن نفهم ما الذي حصل، ولماذا حصل. وإذا كان الحلّ الاقتصاديّ يقوم على فرض ضرائب أعلى على الأغنياء وعلى الاستثمار في التعليم وفي كلّ ما يحسّن شروط البشر، فإنّ الحلّ الاقتصاديّ هذا يصطدم بالسياسة ولا بدّ من حلّه في السياسة، أي في التركّز المتنامي للسلطة السياسيّة في أيدي نخبة المال والشركات التي تتحكّم بقواعد اشتغال العمليّة الاقتصاديّة. بيد أنّ تجهيل هذا التكامل السلطويّ الاقتصاديّ– السياسيّ غالباً ما يعبّر عن نفسه بإشاعة خرافات أخرى لا تصمد أمام التدقيق. فهناك الزعم المتذرّع بهيمنة المواهب، ومفاده أنّ ما يكسبه الناس إنّما يعادل قيمتهم في السوق، متغافلاً عن الكيفيّة التي نُظّمت بموجبها السوق، وما إذا كان هذا التنظيم قابلاً للدفاع عنه اقتصاديّاً وأخلاقيّاً. ذاك أنّ المسألة الحاسمة هي أنّ الدخل والثراء يعتمدان على نحو متزايد على تحديد من يملك القوّة التي تتيح له وضع قواعد اللعبة. والتصوّر القائل إنّ ما يجنيه العامل يساوي «قيمته» في السوق بات اليوم منقوشاً بعمق في الوعي العامّ، بحيث بات الكثيرون ممّن يتلقّون أجوراً زهيدة مقتنعين بأنّ المشكلة هي فيهم وفي انخفاض «قيمتهم». وفي المقابل، فإنّ الذين يجنون الكثير لا بدّ أن يكونوا أصحاب مهارة ومبادرة وتفوّق من صنف استثنائيّ. فالمجتمع، وفقاً لهذا التأويل، إنّما يقوم على الكفاءات والمهارات، ولا دخل بذلك للوراثة أو العلاقات الشخصيّة مع النافذين أو أشكال التمييز الموروثة ضدّ جماعات معيّنة أو، وهذا قد يكون الأهمّ، القدرة على التأثير في التحكّم بقوانين عمل السوق. فمهنٌ كالعمل الاجتماعيّ والتعليم والتمريض والعناية بالمسنّين أو بالأطفال هي بين الأقلّ إدراراً للعائد علماً أنّها مولّدة لفوائد مجتمعيّة لا تقارَن بها الأجور المدفوعة. فقد بيّنت إحدى الدراسات أنّ المعلّمين الجيّدين يرفعون متوسّط قيمة الدخل على مدى الحياة لصفّ مدرسيّ واحد 250 ألف دولار، وبالتالي كلّما ارتفعت الأجور المدفوعة لمعلّمين كهؤلاء زادت القدرة على جذب المزيد والمزيد منهم إلى التعليم. وتلك الخرافة التي تربط الأجر بـ «قيمة» الأجير في السوق تلغي، في أحد أعراضها الجانبيّة، الحاجة إلى رفع الحدّ الأدنى للأجور لأنّ تلك «القيمة» ثابتة بغضّ النظر عن تقلّبات الأسعار وارتفاع أكلاف المعيشة. فإذا كان على ربّ العمل أن يدفع أجوراً أعلى، كان عليه أن يسرّح بعض عمّاله. أمّا الأخيرون فعليهم، من أجل أن تزداد «قيمتهم» في السوق، أن يكسبوا مهارات تقنيّة جديدة. أيّ انقسام سياسيّ؟ إنّ الانقسام السياسيّ الأكبر في أميركا، وهو ما سيستمرّ سنوات، لم يعد بين الحزبين الجمهوريّ والديموقراطيّ. إنّه سيستقرّ على طرفين: مجمّع الشركات الكبرى ومصارف وول ستريت والأغنياء الذين حرفوا الاقتصاد لكي يرسو على وضعه الراهن، مقابل الغالبيّة الساحقة من السكّان المدعوّة إلى أن تتنظّم وتتّحد. وهؤلاء الذين يشعرون بافتقارهم إلى كلّ قوّة، تصدر عنهم اليوم ميول قوميّة متطرّفة تتاخم العنصريّة ومناهَضة المهاجرين، وكذلك فوضى سياسيّة عارمة تجتاح الدول المتقدّمة ذاتها. وهذا ما لا يوقفه إلاّ إدراك طبيعة المجمّع السلطويّ الاقتصاديّ– السياسيّ الحاكم، وبالتالي حماية الرأسماليّة من عدوانه. ففي شركة «كومكاست» مثلاً، ومن أصل 126 شخصاً كانوا يعملون عام 2014 في أجهزة ترويجها، عمل 104 أشخاص موظّفين حكوميّين قبل الانضمام إلى الشركة. فوق هذا، فإنّ بعض كبار العاملين في تلك الأجهزة كانوا قياديّين سابقين في الحزبين الجمهوريّ والديموقراطيّ. وهذا لا يعني بالضرورة أنّ أيّاً من هؤلاء أدّى أعمالاً غير شرعيّة، وثمّة بينهم من يؤمن بأنّه، عبر توسيع نفوذه، إنّما يعظّم أرباح زبائنه أو يخدم المصلحة العامّة. إلاّ أنّ المصلحة العامّة غالباً ما تُفهم في هذا الوسط بوصفها نتاج إجماع المصالح الكبرى المنظَّمة. وكلّما كانت المؤسّسة أكبر وأغنى، بات محاموها وخبراؤها أشدّ تأهيلاً لتحديد ما هي المصلحة العامّة. والمؤسّسات هذه مستعدّة، عبر أولئك المحامين والخبراء والمروّجين، أن تدفع ثروات طائلة دفاعاً عن تصوّرها للأمور ضدّاً على تصوّر منافسيها. ففي 2013 مثلاً، أنفقت «أبل» 3.37 مليون دولار على أعمال «اللوبي»، ودفعت «أمازون» 3.45 مليون دولار، و «فايسبوك» 6.4 مليون، و «ميكروسوفت» 10.4 مليون و «غوغل» 15.8 مليون لتغدو في 2014 صاحبة أكبر لوبي للشركات في الولايات المتّحدة. وكتاب روبرت رايش يحفل بعشرات الأمثلة على الإخلال بالقوانين وتغييرها، واستغلال النفوذ السياسيّ لهذا الغرض، أو استغلال النفوذ الاقتصاديّ لهدف سياسيّ لا يلبث أن يخدم الغرض المذكور، أو تحميل العمّال والموظّفين الصغار كلفة إفلاسات مزعومة أو زائفة تعلنها الشركات. فعلى مدى العقدين الفائتين، تعرّضت كلّ واحدة من شركات الطيران الكبرى في الولايات المتّحدة لعمليّة إفلاس واحدة على الأقلّ، ليتبيّن أنّ المطلوب هو التنصّل من عقد سابق مع اتّحاد نقابيّ، كما استُخدم التهديد بالإفلاس لخفض أجور كان معمولاً بها، وهو ما أذعن له العمّال الخائفون من التسريح والوقوع في البطالة. وهناك صناعة قانونيّة جبّارة، يعمل فيها جيش من المحامين والقانونيّين، تطوّرت عقداً بعد عقد للدفاع عن حقوق كبار الملاّكين وبراءات الاختراع التي تملكها الشركات. لا بل سبق لمستشارة البيت الأبيض لشؤون الملكيّة الفكريّة، كولين شيان، أن لاحظت في 2012 أنّ «غوغل» و «أبل» أنفقتا على حيازة البراءات، وعلى المقاضاة بينهما في ما خصّ البراءات تلك، أكثر ممّا أنفقتا على البحوث وتطوير قدراتهما وخدماتهما. وقد يساور بعضهم أنّ تعاظم الحرّيّات التي تتمتّع بها الشركات الكبرى بما يتيح لها أن تفعل ما تريده، قد يكون في مصلحة الجميع. لكنْ في السنوات الأخيرة لم يحصل هذا، بل ترافق مع الإضرار بالبيئة وتهديد صحّة المستهلكين وسلامتهم. فوق هذا، فإنّ حريّة أصحاب المشاريع في احتكار السوق تقلّل حريّة المستهلكين في أن يختاروا وأن يستفيدوا من الابتكارات التقنيّة. من ذلك مثلاً أنّ إتاحة المجال للشركات التي تزوّد الخدمات الإنترنتيّة كي تقلّص المنافسة أو تلغيها جعلت خدمات الإنترنت في الولايات المتّحدة أغلى منها في أيّ بلد غنيّ آخر، والشيء ذاته يصحّ في شركات الأدوية ومنتجاتها. وقد يخال المستهلكون أنّ الخدمات التي تُقدّم لهم مُرضية، لكنّ ما يفوتهم حجم التجديد والأبحاث الذي أُهدر أو أُتلف، وأيّ وفر كان يمكن تحقيقه مقابل هذه الخدمات نفسها. وجهة لا بدّ من وقفها لقد رسم التقاطع السلطويّ السياسيّ– الاقتصاديّ لوحة لا يمكن وصفها بأقلّ من الفحش والفجور. ففي 2014، كانت المصارف الخمسة الأكبر في ول ستريت تضع يدها على 45 في المئة من موجودات البنوك في أميركا، بعدما اقتصرت في 2000 على 25 في المئة. وما حظيت به المصارف تلك من سلطات ماليّة ضخمة كان قابلاً للترجمة الفوريّة إلى نفوذ سياسيّ. فقد تعاظمت أهميّتها، الكبيرة أصلاً، كمصدر في تمويل حملات الحزبين ومرشّحيهما. وفي 2008، كان المرشّح باراك أوباما قد حصد من وول ستريت تمويلاً لحملته 16.6 مليون دولار مقابل 9.3 مليون ذهبت إلى جون ماكّين. كذلك ارتفعت نسبة ما يجنيه مديرو الشركات إلى ما يجنيه العمّال في الولايات المتّحدة، من 20 - 1 في 1965، إلى 30 - 1 في 1978، إلى 123 - 1 في 1995، إلى 296 - 1 في 2013، وإلى ما يزيد عن 300 - 1 اليوم. وبالإجمال ارتفعت مداخيل المديرين إلى 937 في المئة بين 1978 و2013 في مقابل 10.2 في المئة للعمّال. لا بل حتّى مع أزمة 2008 حين عانى الاقتصادُ الخسائرَ التي لم يعانِها منذ 1929، بلغت القيمة الشرائيّة لمداخيل المديرين في 2009 قرابة ضعف ما كانته في 1992. ومعروف أنّ قانون الشركات في الولايات المتّحدة يعطي أصحاب الأسهم دوراً استشاريّاً غير مُلزم في ما خصّ معاشات وعلاوات المديرين. وغنيّ عن القول إنّ ما من رأسماليّة تستطيع المضيّ قدماً في ظلّ هذا التراجع المتعاظم للقدرات الاقتصاديّة لمستهلكيها، وما من ديموقراطيّة تستطيع الصمود في ظلّ هذا التراجع المتعاظم في قوّتهم السياسيّة. تفاؤل بالنهاية! لكنّ المؤلّف متفائل بالقدرة على التصحيح، وهو يستمدّ من التاريخ الأميركيّ ذاته، ومن تاريخ التغيّرات التي حصلت، أسباب تفاؤله. فأميركا، كما يرى، أنقذت الرأسماليّة مراراً في الماضي من دون أن تنزلق إلى الفاشيّة أو الشيوعيّة، وهو واثق من أنّها ستفعل ذلك مجدّداً. فهي سبق أن واجهت حالات مماثلة قبلاً. ذاك أنّه في أزمنة التحوّلات التقنيّة الكبرى، تطرأ اقتلاعات تصيب العمّال، وتختلّ أنظمة اجتماعيّة قائمة، ويتعرّض الاقتصاد لدورات متسارعة ومتعاكسة المفعول. وغالباً ما يحصد مالكو رأس المال، في ظروف كهذه، عوائد ضخمة، كما تقوى شوكة النخب الماليّة، ويتعاظم تركّز السلطة الاقتصاديّة والسياسيّة. لكنْ مع أنّ التقنيّات الجديدة مصدر ثراء جديد، فإنّ الأنظمة الاقتصاديّة والسياسيّة تحول دون إفادة الأكثريّة منه لأنّ «الذين هم فوق» يحظون بصنع القرار السياسيّ، أمّا «الذين هم تحت» فيشعر الكثيرون منهم أنّ اللعبة مزغولة ومغشوشة. وهذا التوتّر الذي تخلقه تلك المشاعر هو ما يتحوّل وقوداً لإصلاحات يتأتى عنها توزيع الثراء المتحقّق على نحو أعدل للبشر وأضمن لبقاء الرأسماليّة ذاتها. وهذا ما شهدته الولايات المتّحدة مع الثورة الصناعيّة الأولى حين انطلقت إصلاحات الحقبة الجاكسونيّة في ثلاثينات القرن التاسع عشر. لقد آمن الرئيس أندرو جاكسون ومؤيّدوه بضرورة الحدّ من الامتيازات التي سبق للنخب أن راكمتها، من أجل أن يعمل نظام السوق في شكل أكفأ، وكي يخدم أناساً أكثر. إلاّ أنّ الأمر تكرّر في أواخر ذاك القرن، مع الثورة الصناعيّة الثانية وكان من ثمارها السكك الحديد والنفط والكهرباء، وكذلك الاحتكارات التي ركّزت الثروات في القمّة في موازاة فساد سياسيّ واسع وتخبّط اجتماعيّ أوسع. يومذاك خيّر القانونيّ الكبير لويس براندايس الأمّة بين أن «يكون لديها ديموقراطيّة» أو «أن تتجمّع الثروة الكبرى في يد القلّة»، لأنّنا «لا يمكننا أن نحظى بالأمرين معاً». وفعلاً اختارت أميركا، فكان أوّل نظام للضرائب التصاعديّة على الدخل، واستخدم الرئيس ثيودور روزفلت سلطات الحكومة لكسر الاحتكارات الناشئة ومنع الشركات الكبرى من تقديم أيّ تبرّع لطرف سياسيّ، ثمّ أجبر المرشّحين على أن يكشفوا هويّات كلّ المتبرّعين لحملاتهم. وفي هذه الغضون شرّعت ولايات عدّة أوّل حمايات وضمانات تُقدّم للعمل، بما فيها تحديد ساعاته الأسبوعيّة بـ40 ساعة. وفي عشرينات القرن الماضي، وهي أيضاً حقبة ابتكار وثراء أنجبت السيّارة والهاتف والثلاّجة وموادّ كهربائيّة واستهلاكيّة أخرى، عاود الثراء تركّزه وضاعفت وول ستريت نفوذها، وما أن انفجرت أزمة 1929 حتّى كان معظم الأميركيّين عاجزين عن شراء أيّ من السلع والخدمات الجديدة. وهنا ظهرت إصلاحات «نيو ديل» التي أعطت العمل المنظّم حقّ التفاوض الجماعيّ مع الملاّكين، ومنحت المستثمرين الصغار والبيزنس الصغير الحماية من سطوة المال الكبير. وفي انتخابات 1936، هاجمت وول ستريت والمال الكبير فرانكلين روزفلت، فردّ مرحّباً «بكراهيّتهم» غير المسبوقة. ثمّ، بعد الحرب العالميّة الثانية، ومع النفوذ الذي بات يمارسه الاقتصاد الكينزيّ، انتقل التركيز إلى الضرائب والتحويلات الحكوميّة كأداة لاستقرار دورة البيزنس ومساعدة الفقراء. وفي أواخر السبعينات، وأيضاً مع موجة ابتكار أخرى أثمرت المستوعبات البحريّة والكومبيوتر والساتالايت وبعض التقنيّات الرقميّة، تركّز الغنى وازداد انحصاراً، وكان لهذا الوضع المستمرّ مذّاك أن انفجر في 2008. لكنّ الأزمة المذكورة بيّنت مجدّداً أنّ الاقتصاد والرأسماليّة والسوق باتت تستدعي الإنقاذ الذي تجيد أميركا تقديمه. شيء واحد مؤكّد يطرحه علينا تفاؤل روبرت رايش، هو أنّ انتخاب دونالد ترامب، الذي دلّ على أنّ الإنقاذ ضلّ طريقه، سيطيل زمن انتظارنا لتحقّق التفاؤل.
مشاركة :