«كسور في الكتف واضطرابات في حاسة السمع»، هي مخلّفات حادث مرور تعرّضت له «نجاة»، العاملة الزراعية في إحدى قرى محافظة صفاقس بالجنوب التونسي، أثناء تنقّلها على متن شاحنة للنقل الجماعي خلال الصيف الماضي. حادث فقدت خلاله إحدى زميلاتها التي توفيت على الفور بسبب انزلاق الشاحنة نتيجة الأمطار الغزيرة. نجاة التي تماثلت الآن للشّفاء تستعد بكثير من الحماس لموسم جني الزيتون الذي يبدأ قريباً. وتقول: «طيلة ثلاثة أشهر نقضيها في جني الزيتون كأجراء لدى كبار الفلاحين أو بالتعاونيات الفلاحية الحكومية، نجني ما يكفينا لمدة سنة من أموال ومؤونة، هو موسم سنوي مبارك ولا غنى لنا عنه». وحول المصاعب التي تتعرض لها هي وزميلاتها خلال فرصة العمل السنوية هذه، تواصل نجاة حديثها بالقول: «ننهض يومياً في الساعة الثالثة فجراً، نتزود بما يلزمنا من أكل وشاي، نتدثّر جيداً ثم نتجمّع في ساحة القرية لنستقلّ شاحنة أحد الفلاحين أو أحد تجّار الزيتون التي تقلّنا لمكان العمل، نقضي يومنا في العمل ونعود في ساعة متأخرة على متن نفس الشاحنة. خلال رحلتي الذهاب والعودة نتقاسم المكان الضيق الذي تفوح منه عادة رائحة فضلات المواشي، ولكننا لا نبالي فغايتنا هي فقط أن نصل بسلام». وبسبب استهتار سائقي هذه الشاحنات ورغبتهم في الوصول بسرعة في مناطق تغيب عنها المواصلات العامة المضمونة يتعرض الركاب لأخطار تهدد صحتهم وحياتهم. قصة نجاة تلخص معاناة 32 في المئة من نساء تونس يمثلن العاملات في القطاع الفلاحي، وهي فئة منسيّة تتعرّض للاستغلال من طرف المؤجّرين والتمييز في الأجر على أساس الجنس وتتجاهلهن الدولة والمنظمات الحقوقية النسوية إلا أنهن لا يملكن إلا مواصلة العمل والكد والتضحية بأرواحهن في صمت. عن معاناة المرأة الريفية العاملة تقول الإعلامية نجلاء بن صالح في حديث لـ «الحياة»: «لولا حوادث المرور المتكررة لشاحنات نقل العاملات الفلاحيات والتي راحت ضحيتها العشرات منهن لما أثير موضوع معاناة هذه الفئة من النساء التونسيات المهمّشات. هذه الحوادث التي تحصد أرواحهن وتسبب لهن إعاقات دائمة تحدث بصفة دورية وموسميّة على مرأى ومسمع من السلطات المختصّة التي تتجاهلهن عمداً والمنظمات الحقوقية التي تكتفي بكتابة البلاغات والتعبير عن التنديد والاستياء بدل الانتقال إلى المكان لدعم الضحايا والاستماع إلى شكواهن». وحول ظروف عمل المرأة الريفية تضيف بن صالح «تعمل المرأة الريفية عادة بنصف أجر الرجل وقد ورد في آخر الإحصائيات الرسمية أن 90 في المئة من العاملات الفلاحيات يعملن لأكثر من 9 ساعات متواصلة يومياً ولا تتمتع غالبيتهن بالتغطية الاجتماعية والضمان الصحي. هذا علماً أن مسؤولي الصحة والسلامة المهنية لطالما حذروا من تعرض هذه الفئة العاملة المباشر للعديد من الأمراض الخبيثة الناتجة عن استعمالهن للمبيدات الحشرية والمواد الكيميائية ومعاناتهن من أمراض الكلى الناتجة عن تلوث المياه في الأرياف وأمراض القلب والجهاز التنفسي الناجمة عن الإجهاد المفرط.» وأكدت الإعلامية وفاء الهمامي، في حديث لـ «الحياة» حول خطورة شاحنات النقل التي أصبحت تنعت بـ «شاحنات الموت»، أنه «أصبح من المعتاد أن تعلن نشرات الأخبار عن انقلاب شاحنات تقل عاملات وسقوط ضحايا بينهنّ، آخر هذه الحوادث كان منذ سنة تقريباً وقد أصيبت خلاله أكثر من 30 عاملة إصابات خطيرة». وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي أخيراً صورة بشعة لشاحنة تنقل عشرات العاملات الفلاحيات بطريقة مهينة لكرامتهن، في وقت وعدت وزارتا المرأة والنقل في مناسبات عديدة بتفعيل اتّفاقية نقل العاملات في الأرياف، لكنّ هذه الوعود بقيت حبراً على ورق. في الغضون، تتواصل مأساة العاملة الريفية وتتكرر في مشهد فيه استهتار بكرامة نساء آثرن العمل والكد على انتظار مساعدات حكومات شغلها الصراع السياسي عن تلبية مستلزمات فئات مستضعفة من شعبها.
مشاركة :