يحكي الفيلم قصة إرسال عميل عبر الزمن في عدة رحلات معقدة إلى الماضي وإلى المستقبل؛ من أجل إيقاف المجرمين قبل ارتكابهم الجرائم، لكن في مهمته الأخيرة قبل أن يتقاعد، سيتوجب على العميل مطاردة المجرم الوحيد الذي خرب له حياته واستعصى القبض عليه على مدار الزمن. المطاردة ستؤدي به إلى مغامرة استكشاف معانٍ مختلفة، مثل القدر وهوية الإنسان وما معنى أن تحب، كل هذه المعاني ستعصف بالعقل في مفهوم مثير وفريد من نوعه. الفيلم هو من إخراج وسيناريو "الإخوة سبيرغ"، ومبنيّ على رواية "All You Zombies" من كتابة روبرت هينلين. الفيلم صدر سنة 2014، وهو من بطولة "إيثان هاوكي Ethan Green Hawke" و"سارة سنوك Sarah Snook". قبل أن نشرع في محاولة فهم هذا الفيلم، شيء واحد سيتفق عليه كل من شاهده؛ هو أن مشاهدة واحدة فقط -أو مشاهدتين- لن تكفي لتستوعب ما الذي يحدث. الفيلم شاهدته منذ صدوره سنة 2014 تقريباً أكثر من 6 مرات، حتى استطعت أن أخرج بشيء منطقي واضح منه؛ لذا أدعوك إلى أن تلقي عليه نظرة أخرى، فالفيلم يستحق من دون شك. لكي نفهم أحداثه المركبة والمعقدة جداً، يجب أن نفهم أولاً بعض الأساسيات المبني عليها. أولاً: مفهوم السفر عبر الزمن وتناقضه الأبدي، متى كانت البداية ومتى ستكون النهاية؟ العديد من أفلام السفر عبر الزمن، مثل فيلمنا هذا، تسقط في فخ هذا التناقض، ليس أن مخرجيها لا يدركون هذا الأمر؛ بل إن مفهوم السفر عبر الزمن نفسه لا مفر له من هذا التناقض، وهذا من الأشياء التي تحول دون تطبيقه على وجه الواقع، إلا أن السينما لا حدود للإبداع معها. الفيلم نفسه لمح إلى هذا الأمر عندما سأل أحد شخصياته عن الأصل بين الدجاجة والبيضة؛ أيهما الأول الذي خرج للوجود؟ لكي نوضح الصورة أكثر سنحاكي هذا المثال مع مثال آخر، خذ معي دائرة وحاول أن تبحث لها عن بدايتها ونهايتها. لنلقي نظرة على القرص الدائري للشمس كمثال: لن تستطيع أبداً أن تحدد له البداية ولا النهاية (أتكلم عن القرص الدائري). إذن، فنحن نتكلم عن حلقة مفرغة، سنبقى إلى نهاية الزمن ولن نستطيع أن نكسر هذا المفهوم الشائك، وإذا عدنا إلى الفيلم وحللناه جيداً، فسنجد الفكرة نفسها. الفيلم يتحدث عن شخص يرجع بالزمن إلى الوراء ثم يسافر إلى المستقبل ثم إلى الماضي... من أجل أن يقبض على مجرم استعصى عليه، وليقوم بهذا سيلتقي شخصاً آخر يساعده على إتمام هذه المهمة، لكن ونحن نتابع أحداث الفيلم إلى آخرها نكتشف أن جل هؤلاء الأشخاص هم عبارة عن شخص واحد، النادل أو الرجل في الحانة، "جون" المرأة التي تشبه الرجل أو الأم غير المتزوجة، الشابة "جين"، الفتاة "جين"، الطفلة "جين"، الانتحاري the fizzle bomber، كل هذه الشخصيات هي شخص واحد، لكن كيف؟ لأن هذا ما يسمح لك السفر عبر الزمن بالقيام به! كان قد سألني أحد متابعي موقع (Jalal Eddine Rajai) على صفحة الفيسبوك: كيف يمكن لشخصية "جين" الشابة أن تقابل نفسها أو أن تلد طفلة ستصبح نفسها عندما تكبر... وجاء سؤاله على الشكل التالي: سؤاله هذا جيد، وغالباً هذا ما أربك الكثيرين عندما فهموا أن جل الشخصيات هي شخصية واحدة، لكن كما قلنا: مفهوم السفر عبر الزمن يتيح لك أن تسافر إلى الماضي إلى لحظة معينة من عمرك، لكن... يمكن لك أن تلاحظ وتراقب نفسك فقط، ولا يمكن لك أن تتفاعل معها أبداً! لكن ليس هذا ما نراه في الفيلم، نرى أن شخصية في سن معينة من زمن آخر أقامت علاقة مع نفسها وهي ما زالت شابة في زمن آخر! إن مراقبتها وملاحظتها كانتا أقصى ما يمكنه أن يفعله معها، لا أن يتفاعل معها. لكن كيف؟ إن الفيلم يسقط في الخطأ، الفيلم يعاني هفوة في تعامله مع مفهوم السفر عبر الزمن، كيف؟ صديقنا هذا طرح سؤالاً آخر مهماً: كيف أن شخصية الأم غير المتزوجة أو "جون" لم يتعرف على شخصية "جين" الشابة عندما قابلها أمام الكلية، أليست تلك اللحظة هي نفسها التي مر بها من قبل؟ كان من اللازم عليه ألا يتابع علاقته معها؛ حتى لا يتكرر الشيء نفسه الذي وقع هو معه. الفيلم يسند هذا المشهد بأن الحب الذي أوقع "جون" مع "جين" أنساه أن ما يفعله سيلقي به في التهلكة، وأنساه أن هذه العلاقة ما هي إلا إعادة للحياة نفسها التي مر بها. نعم، الحب! الفيلم يقدم عذر الحب من أجل شرح هذا المشهد، وهذا هو الخطأ الذي يسقط فيه الفيلم. إن السفر عبر الزمن له قاعدة تضبطه رغم أنه خيال علمي، هذه القاعدة تتلخص في أن الشخصية التي تستعمله من أجل الرجوع إلى الماضي مثلاً، يجب ألا تلاقي نفسها أو تتفاعل معها؛ حتى يمكن فقط المراقبة والملاحظة، وإن تخطيت حدود هذه القاعدة فستسقط في التناقض الكوني، بمعنى ستبقى في حلقة مفرغة لا نهائية أو ستُمحى من الوجود. ففي فيلم "الرجوع إلى المستقبل Back to the Future" مثلاً، نجد كيف أن شخصيات الفيلم حاولت أن تكسر هذه القاعدة فكان سيكون مصيرها التلاشي من الوجود، أو كما في الفيلم الذي صدر السنة الماضية "Doctor Strange"، كانت ستسقط أحد شخصياته في حلقة من دون بداية ولا نهاية. إذن، لا بد لك أن تحترم هذه القاعدة حتى يصبح السفر عبر الزمن ممكناً، يجب ألا تتفاعل مع نفسك. هناك خطأ آخر في القصة، في البداية نظر النادل إلى ساعته عندما دخلت أو دخل جون إلى الحانة، بمعنى أنه كان ينتظره، لكن عندما بدأ يحكي له عن قصته وقال هذه الجملة: "عندما كنت طفلة صغيرة..."، تفاعل النادل بتعجب واستغراب؛ لأنه كان يظنه رجلاً، الشيء الذي يدل على أنه لا يعرف شيئاً عن هذا الأمر وقلنا إنه كان ينتظره، فهما الشخص نفسه، وهو قد مر بهذا الحدث من قبل، إذن لماذا سيستغرب إن كان ذكراً أو أنثى؟ والدليل على أن النادل قد مر بهذا الحدث من قبل، هو عندما سأله جون عند التوقيت 00:55:55 كيف عرف أن الملابس توجد في ذلك المكان، وهذا أكبر دليل على أن الأحداث تتكرر. دعونا نرجع إلى قصة الفيلم ونحاول أن نجزئها بعض الشيء، لتتضح لنا الصورة الكاملة: يتم وضع طفلة صغيرة في دار للأيتام من طرف شخص مجهول، تكبر هذه الطفلة من دون أبوين وحدها في هذا الميتم، كما أنه ليس لديها الكثير من الأصدقاء. تكبر لتصبح شابة في العشرينيات، فيأتيها عرض من أجل أن تلتحق بمؤسسة احتراف مهنة رواد الفضاء، تقع في مشاكل مع إحدى المشاركات فيتم إقصاؤها من هذه المؤسسة، تتعرض للإحباط فتحاول جاهدة أن تجد لنفسها هدفاً في الحياة، فتضطر إلى المرور بعدة مهن صغيرة دون أن تُوفَّق في أي منها. فجأة تلتقي هذا الرجل الذي سيأسر قلبها لأول مرة وتقع في حبه (أو كما تعتقد)، لكن بعد مدة يذهب هذا الرجل من دون عودة فيتركها حاملة منه بطفلة، كل هذا جعلها تُصدم، ولكن تقرر أنها ستعتني بطفلتها بعد ولادتها ولن تترك ما حدث لها يحدث لابنتها. بعد مدة تضع مولودتها، فيصدمها الأطباء بخبر غريب جداً؛ أنه في أثناء الولادة اكتشفوا أن لديها نوعين من الأعضاء التناسلية، ذكرية وأنثوية أو بما يسمى الخنثى، أعلمها الأطباء أنه تحتم عليهم إزالة الأعضاء التناسلية الأنثوية؛ بسبب كثرة النزيف في أثناء الولادة؛ مما أدى إلى اندثارها، ومن ثم تحتم عليهم إزالتها وإعادة هيكلة الأخرى الذكرية، ليبقى الحل الوحيد أمامها هو أنها ستتحول إلى ذكر، ليس بيدها إلا أن تتقبل الأمر رغم أنه نزل عليها كالصاعقة. وفي الوقت نفسه في ليلة معينة، يأتي شخص غريب فيخطف ابنتها من المستشفى، مرة أخرى حياتها أو حياته (الآن) تُقلب رأساً على عقب ويصبح يائساً من دون هدف، رغم أنه حاول أن يجد عملاً يؤمّن له عيشه، لكن لا شيء يثير الاهتمام. ذات ليلة بعد مرور 6 سنوات تقريباً (نحن الآن في 1970)، يذهب إلى حانة من أجل احتساء كأس من الشراب، فيدخل هو والنادل في نقاش... بعد ذلك، يحكي له عن قصة حياته وعن كل هذه الأشياء التي مر بها، وفي الأخير يفاجئه النادل بعرض مغرٍ، ألا وهو منحه الفرصة من أجل الانتقام من ذلك الرجل الذي أقام معها(ـه) علاقة وهجرها(ـه)، وخرب لها(ـه) حياتها(ـه)، وذلك سيكون من خلال السفر عبر الزمن، أي إنه سيرجع به إلى الماضي وسيتيح له الفرصة من أجل الانتقام، سيرجعان إلى الفترة التي التقيا فيها. لكن، عوض أن ينتقم يلتقي جين الشابة (يلتقي نفسه من الماضي)، فيقع في حبها والقصة نفسها ستُعاد، وسيكتشف أن من خرب له حياته هو نفسه، وهنا سنسقط في التناقض اللامتناهي بسبب مفهوم السفر عبر الزمن. عندما تتضح لك الصورة الكاملة للقصة لن يعود ذلك الغموض يربكك، نعم الفيلم جيد، لكنه ليس كاملاً، فهو يحتوي على بعض الأخطاء، هذه الأخيرة هي التي يعول عليها لكي يظهر من الخارج على أنه من أفضل أفلام الخيال العلمي ويُربِك المشاهد على فهم الأحداث جيداً. كما أنه يجب ألا ننسى أنه في الأخير يسوق لفكرة أن ما حدث حدث، ولا يمكن تغيير شيء بعد وقوعه، وهذا ما سيستوعبه النادل أو رجل الحانة، الذي هو من حث في الأول جون أو الأم غير المتزوجة على أن ينتقم من الشخص الذي خرب له حياته، عندما كان واقفاً في الأعلى ينظر إليهم، كان يأمل أن يكسر سلسلة القدر تلك ويتحرر من حلقتها المفرغة، لكنه استوعب أن ما يحدث يحدث، ولا يمكنه تغيير شيء في قدره. وإن حاولت أن تفهم عنوان الفيلم جيداً فستفهم لماذا جون لم يتعرف على نفسه وهو شابة عندما التقى جين، وأنه مر باللحظة نفسه من قبل، كما كان عليه أيضاً أن يكسر سلسلة القدر تلك، بألا يقع في غرام نفسه وهو شابة. إن أقرب الترجمات لعنوان الفيلم Predestination ستكون "القضاء والقدر" أو "القدر المحتوم"، بمعنى أن ترضى بقضاء وقدرك جيداً كان أو سيئاً، لن تستطيع أبداً أن تغير مساره مهما فعلت. وهذا كله يرجعنا إلى السؤال السابق: متى بدأ كل هذا؟ ومتى وُلدت الطفلة "جين"؟ نكتشف من الفيلم أن الشخص الذي وضع الطفلة في الخيرية هو نفسه الطفلة لكن عندما تكبر، بعد أن يمر بعدة مراحل في حياته، منها أنه تم تغيير جنسه من أنثى إلى ذكر (هذه المرحلة تعتبر أساس الفيلم، فمن خلالها جعل المخرج كل هذا التناقض والغموض ممكناً، لولاها لما كان هناك ذكر وأنثى لتكون هناك علاقة من بعدُ بينهما). هنا، سنسقط -كما قلنا- في التناقض الأبدي، وهذه هي الهفوة الأخرى التي يعانيها الفيلم، أي إنه استعان بمفهوم غير منتهٍ. لكي نبسط الأمر بعض الشيء وتتضح الصورة أكثر، لاحظ معي شخصيات الفيلم في هذه الصورة: هناك مشهد في نهاية الفيلم قد يخلق نوعاً من الإرباك، عندما ذهب رجل الحانة إلى نسخة مستقبلية من نفسه العجوزة. إن رجل الحانة هذا ليس هو الذي رأيناه في بداية الفيلم، إنما هو "جون" أو الأم غير المتزوجة، أما الشخص العجوز فهو رجل الحانة من بداية الفيلم، لاحظ هذه الصورة جيداً: لكن، لا يهم من هو الرجل العجوز بالضبط أو من هو رجل الحانة... إن كان كلهم شخصاً واحداً يجرون في دائرة غير منتهية من دون بداية. في الأخير، ما يمكننا قوله عن هذا الفيلم رغم بعض هفواته؛ هو أنه يبقى من أفضل الأفلام وأكثرها طموحاً والتي تلعب بعقل المشاهد وتتحداه في ذكائه وتركيزه، من الأفلام القليلة التي لها الجرأة على فعل ذلك. ولا تستنزف كل طاقتك محاولاً فهمه بالكامل، فلن تفعل. - تم نشر هذه التدوينة في موقع ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :