في عام 1894 كان غوستاف كليمت في الثانية والثلاثين من عمره، لكنه كان قد بات معروفاً في الأوساط الفنية والاجتماعية في فيينا، والى درجة طلبت منه جامعة المدينة أن يحقق ثلاث جدرانيات لتزين ثلاثاً من زوايا سقف إحدى قاعاتها الرئيسية، وهي القاعة المعروفة باسم «أولا مانيا». والحال أن الرسام الذي كان منذ ذلك الوقت المبكر قد عُرف بقدرته على الاستفزاز وباتباعه خطاً تزيينياً وتلوينياً في معظم أعماله يخرج عن المألوف، استغرقه الأمر سنوات عديدة قبل أن يبدأ في إنجاز اللوحات الثلاث المطلوبة منه. ويبدو أنه خلال تلك السنوات كان من سوء المزاج والإحباط، إذ إن ذلك انعكس في تعامله مع اللوحات فكل واحدة منها ما إن عرضت حتى أثارت زوبعة من السجال وقسمت الأوساط السياسية والفنية - والجامعية كذلك - الى أطراف في صراع من المؤكد أن الفنان دفع ثمنه غالياً، في الداخل، لكنه في المقابل عوّض على ذلك في الخارج كما سنرى. ولئن كان ما سمي يومذاك بـ «فضيحة الجامعة» قد بدأ مع اللوحة الأولى المعنونة «الفلسفة» والتي عرضت للمرة الأولى في عام 1900، فإنها، أي «الفضيحة» وصلت إلى ذروتها مع عرض اللوحة الثانية المعنونة «الطب» في العام التالي. وكان الصخب هذه المرة من الضخامة الى درجة أن اللوحة الثالثة التي أنجزها الفنان في عام 1903 وعنونها «القضاء»، لم تثر مزيداً من الفضائح على رغم أنها سوف تُلعن وتُرجم بدورها. > بعد عرض اللوحة الثالثة، كان الأمر قد بات مفروغاً منه: صار كليمت رساماً ملعوناً حتى وإن كانت باريس قد سارعت في تلك الأثناء الى تكريمه ومنحه واحدة من أهم جوائزها الفنية. ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من الإشارة الى أن اللوحات الثلاث دُمّرت لاحقاً على أيدي النازيين في حريق كبير بحيث لم يتبق سوى نسخ وصور لبعض أجزائها، ولا سيما للوحة «الطب» التي تظل أشهر تلك اللوحات، هي التي أثارت القدر الأكبر من السجال والضجيج وتسببت حتى في إحداث شرخ بين الفنان ووزير الثقافة النمسوي فون هارتل الذي كان قد اعتاد أن يحميه في مناسبات سابقة. هذه المرة لم يتمكن فون هارتل من تقديم تلك الحماية له فتخلى عنه. > الحقيقة أن غوستاف كليمت حين انكبّ على المشروع في البداية، كان يزمع أن يحقق عملاً ضخماً يجمع فيه بين ميوله التزيينية وتلوينه الأنيق وانغماسه في الفلسفة والعلوم. لكنه، إذ كان في الوقت ذاته يقف الى جانب التقدم ويخوض معركة فكرية ضد أنصار الفلسفة الوضعيين المهيمنين على العالم الجامعي في حينذاك، كما ضد البورجوازية المتهمة من جانبه وجانب رفاقه في عالم الفن النمسوي، بتدمير الفنون والأفكار ضمن إطار السقوط المدوي للإمبراطورية والغروب الأليم لفيينا ذاتها، لم يجد مهرباً من أن يحول اللوحات الى منصة لفتح جبهة في الصراع ضد خصومه الوضعيين/ البورجوازيين. لكن هؤلاء سيكونون له بالمرصاد. وبالتالي، حتى لئن بدا في اللوحات الثلاث ما يحمل قدراً كبيراً من الاستفزاز والجرأة، كان من الممكن للوحات أن تمرّ وتُعرض في زمن كان فيه المجتمع في شكل عام يسمح بقدر معيّن من جرأة. لكن ردود الفعل التي جابهت كليمت منذ اللوحة الأولى، كانت من القوة - وربما نقول من الافتعال أيضاً - الى درجة تجاوزت معها حدة المعركة ما تحمله اللوحة الأولى من استفزاز. ومن هنا ما يبدو في اللوحة الثانية، «الطب»، من استفزاز إضافي من الواضح أن الرسام لجأ اليه كي يفتح المعركة حتى نهاياتها. ويقيناً أنه بهذا، فقد الحماية الرسمية معطياً لنفسه القدرة على أن يوصل المعركة الى أقصى درجات الحدة لاحقاً مع اللوحة الثالثة. > مهما يكن من أمر، لا شك في أننا اليوم إذ نتأمل ما تبقى من لوحة «الطب» التي ستظل تعتبر اللوحة الرئيسية في تلك الثلاثية، لن يفوتنا أن ندرك ليس فقط ما فيها من استفزاز للبورجوازية والوضعيين، بل كذلك ذلك القدر من التصدي للطب ذاته. فهنا لدينا بصورة أساسية ما يمكننا اعتباره نهر الحياة المتدفق الجاري والذي يجرّ معه البشر غير عابئ بهم أو بآلامهم ومن دون أي وعد لهم بترياق أو بشفاء، وذلك على النقيض تماماً مما كان ينبغي على لوحة تتحدث عن الطب أن تعد به. ومن هنا طبعاً كان التساؤل عما إذا كان كليمت قد حقق لوحة عن الطب أو عن عجز الطب عن أن يكون شافياً. بالأحرى، رأى الذين اعتبروا فن كليمت في هذه اللوحة «فناً انحطاطياً»، أنه إنما يصور هنا الإنسان في لحظات نشوته المطلقة كما في لحظة ألمه المطلق، لكنه في المقابل إذا كان يصور الطب في شكل أو في آخر هنا، فإنه إنما يصوره في عجزه عن أن يشفي الإنسان من آلامه أو يقيه شرّ نشوته فيما الإنسان يُجرّ بنهر الحياة المتدفق. والأدهى من هذا أن الآلهة «هيجيا» المعروفة منذ الأساطير اليونانية القديمة بأنها «ربة الطب والشفاء»، والتي من المؤكد أنها هي هنا المرأة التي صورها كليمت في نقطة المركز من لوحته، لا تفعل غير أنها تدير ظهرها للبشر غير آبهة بهم، ناهيك بأن مقابل تلك المرأة يجري «دولاب الحياة» وقد تألفت عوارضه من هياكل عظمية لأناس ضُنّ عليهم بالشفاء، سواء كانوا عجائز أو أطفالاً أو شباناً. إنهم مرضى، كما يبدو أن اللوحة تقترح علينا، يتخطاهم قطار الحياة تخطي الشفاء لهم تاركاً إياهم لمصيرهم. إذاً أين رسالة الطب هنا؟ وأين الأمل الذي كان يجدر بالطب أن يبعثه؟ وهل كان يحق لغوستاف كليمت إزاء هذا التفسير - الذي لم ينكره على أي حال - للوحته، أن يتساءل مندهشاً، كما فعل، عما يجعل الأطباء وفي شكل رسمي، ينضمون الى حلقة منتقدي أعماله المحتجين على تلك «الفضيحة الجامعية»؟ > صحبح أن بعض المدافعين عن لوحة كليمت هذه، وكانوا في البداية قلة على أي حال، لفتوا الأنظار يومذاك الى أن ثمة في الجانب الآخر من اللوحة امرأة أخرى تبدو عائمة في الفضاء وتحمل بين يديها وليداً من الواضح انه ترمز معه الى «الحياة الجديدة، الحياة التي تولد دائماً من رحم القديم، كما من رحم الألم لتؤمن سيرورة بشرية متواصلة». هذا صحيح قال يومذاك خصوم كليمت... ولكنهم تساءلوا: «إذا كان الأمر كذلك، لماذا ترى الرسام صوّرها ويدها الأخرى معلقة بـ «دولاب الحياة» السائر نحو مصيره البائس لا ينفع فيه طب أو شفاء؟ أفلا يعني تمسكها بذلك الدولاب ذاته انها تسير الى المصير ذاته ولو انها تحمل بين ذراعيها ذلك الطفل المتدفق بالحياة؟». والحقيقة أن كل هذه الأسئلة بدت يومذاك مشروعة. بخاصة أن الرسام، إمعاناً منه في توضيح دلالة اللوحة، جعل الأفعى المعهودة تلتفّ على جسد «هيجيا» لتبصق سمّها في الكأس الرمزية، مما لا يدع أدنى مجال للشك في دلالات اللوحة. وهكذا الى جانب البعد العلمي المفارق الذي اتسمت به اللوحة، كما الى جانب بعدها الاستفزازي، جاء البعد الإباحي فيها ليشتغل ضد الرسام ومشروعه. لقد رُفضت اللوحة من الجميع... ورفضت الى درجة لم يستطع معها وزير الثقافة مواصلة الدفاع عن الرسام و «حرية التعبير» لديه، كما إلى درجة أن كليمت حين أنجز الجزء الثالث من «الطلبية»، لم يحتج الى أن يخوض أية معركة للدفاع عنها. كان المشروع كله قد أضحى جزءاً من الماضي ليأتي الحريق النازي بعد سنوات ويدمره! ولنذكر هنا انه إذا كان المعرض العالمي في ميسوري الأميركية والذي أقيم في عام 1904 قد قرر عرض اللوحة الثالثة «القضاء»، المملوكة على أي حال للوزارة، فإن الوزير مارس ضغوطه لمنع عرض تلك اللوحة هناك. فما كان من كليمت إلا أن استعاد اللوحة من الوزارة بشرائها من ماله الخاص. > مهما يكن، لم يعد للثلاثية وجود في أيامنا هذه إلا على شكل منسوخات بالأبيض والأسود مع استثناء «الطب» التي توجد نسخة ملونة منها، علماً بأن كلاً من اللوحات الثلاث، تعتبر من أضخم أعمال غوستاف كليمت (1862 -1918) إذ يصل ارتفاع اللوحة منها الى 430 سنتيمتراً وعرضها الى ثلاثة أمتار.
مشاركة :