"كيفك اليوم؟". "منيح". "جوعان؟". "لا، عم آكل وجبة بالنهار. بس الكل حواليي جوعانين. أبو محمد صرلو تلات أيام بلا أكل هو وعيلتو. أبو معاذ من أربع تيام ما شرب شاي لأنو ما عندو سكر. حديث الكل هون عن الأكل، والأسعار الغالية. وأنا؟ أنا تعبان. قد ما كان الواحد قوي بتجي لحظة بيحس بدو يبكي. أنا متمني هلأ بهي اللحظة يجي نيزك يشيل الغوطة باللي فيها، لأنو ما عاد عنا حل غير هيك. ما عاد نتحمل الحصار". ينهي صديقي مكالمة لم تتجاوز الدقيقتين من دون أن يودعني. يتركني وأنا أحدق في صحن المكسرات على الطاولة جانبي. هل عليّ أن أبكي؟ هل عليّ أن أدّعي أنني تأثرت كثيراً بأخبار الحصار، فلم أعد قادرة على تناول الطعام مجرد ادعاء؟ حتى لو بكيت، وحتى لو قررت أن أمتنع عن إكمال صحن المكسرات، فبعد لحظات سأنسى كل شيء وستعود الحياة إلى ما كانت عليه. هل تغيرت حياة أحد ممن حولي لأن الغوطة الشرقية التي لا تبعد منا سوى بضعة كيلومترات، محاصرة؟ لا أعتقد. أفكر أحياناً في بشار الأسد. أحاول أن أضع نفسي مكانه، أو أدخل إلى عقله لأعرف كيف يفكّر وما يفعل في هذه اللحظات. هل يعرف أن الغوطة محاصرة؟ في تخيلاتي الساذجة، أعتقد أنه "لن يهون عليه" أن يموت الأطفال في سوريا من الجوع والمرض. لا أعتقد أن لديه علماً بحصار حواجز الجيش والأمن وما يسمّى "الميليشيات الرديفة" أكثرَ من ثلاثمئة وخمسين ألف مدني في الغوطة. نعم، هو يأمر بالقصف، وإلقاء البراميل من المروحيات، لكن أن يحاصر؟ لا أعتقد. في تخيلاتي الساذجة أعتقد أنه "لن يهون عليه" أن يموت الأطفال في سوريا من الجوع والمرض. لا أعتقد أن لديه علماً بحصار حواجز الجيش والأمن وما يسمّى "الميليشيات الرديفة" شاركغرد في أفكار أخرى، أراه متعجباً من إرادة سكان المناطق المحاصرة في البقاء. أما آن أوان أن يموتوا؟ حصارهم بات مزعجاً ومحرجاً له، ويضطره لإدخال المساعدات الغذائية بين وقت وآخر. "ما حلوة يقولوا عم يجوّع شعبه. المسلحين بس بيجوعوا الناس وبيعملوهم دروع بشرية". في كل الأحوال، ماذا يفعل في هذه اللحظات؟ يأكل السوشي؟ يلعب البلاي ستيشن؟ يقرأ تقارير عسكرية؟ يقلب محطات الأخبار في التلفاز؟ يشاهد فيلماً أجنبياً في MBC2؟ ماذا يفعل؟ لا أعرف ماذا يفعل الرؤساء عادة، الديكتاتوريين منهم والديموقراطيين، خيالي لا يمكن أن يتجاوز تلك الاحتمالات.أقوال جاهزة شاركغردأفكر أحياناً ببشار الأسد أحاول أن أضع نفسي مكانه أو أدخل لعقله الباطن لأعرف ماذا يفعل في هذه اللحظات شاركغردلغة الحصار لا يفهمها إلا من هم فيه. نحن نعيش خارجه، وإن كنا قريبين جغرافياً، فنحن غير قادرين على رؤية هذا العالم الرمادي أو حتى تصوره أو الاقتراب منه *** منذ أيام، أرسل إلي صديقي المحاصر رابطاً لصور نشرتها صفحة دمشق الآن من المدينة القديمة. كتب لي: "اشتقت للشام القديمة. مشتاق روح على مطعم الباب العتيق، وآكل وجبة اسكالوب. هاد أكتر شي مشتاق ألو حالياً". حين قرر صديقي البقاء في الغوطة التي حوصرت بشكل مطبق منذ أربع سنوات، كان مؤمناً بأهمية ما يقوم به من عمل إنساني مع إحدى منظمات المجتمع المدني العاملة في الغوطة. "الكل عم يهرب، خليني عالأقل هون حاول ساعد الناس". أقول كان مؤمناً بعمله الإنساني، وما زال، لكن الأسئلة ومعادلات الجوع اليوم تحاصره وتنهش كل يقين متبقٍّ داخله، كما تحاصر كل من وما حوله. "ليش معصب اليوم؟" "حاج تسأليني ليش معصب. تعالي شوفي الوجوه. كلها شاحبة. الغوطة كتير رمادية. ما فيها ألوان. الكل شاحب، الكل كئيب، وما عاد حدا متحمل الحصار". لا أعلم كثيراً عن بشار الأسد. هل اختار أن يكون رئيساً، أم فُرض عليه ذلك بعد وفاة الوريث السابق للحكم أي أخاه باسل؟ وهل يستمتع اليوم بعمله كرئيس؟ هل يؤمن بنفسه؟ أما زال يؤمن بنفسه بعد سنوات الحرب الست؟ أعتقد أن صديقي، لولا الحصار الرمادي، لكان إيمانه بما يقوم به أقوى من أي وقت مضى. لكن الحصار متعب. الحصار يكسر الإنسان من الداخل. يضحك كثر من أصدقائي حين يعلمون أنني ما زلت أتابع خطابات بشار الأسد ومقابلاته. أحاول أن أستشف أي شيء من طريقة كلامه، حركاته، نبرة صوته. هل يعلم أن الغوطة محاصرة؟ لا أعتقد. نعم، يعلم مروحياته تقصف، وقد أنكر بكل سذاجة استخدام البراميل المتفجرة في إحدى مقابلاته، حيث ضحك وقال أن لا علم له أن جيشه يستخدم البراميل أو أواني الضغط. لكن، ماذا عن الحصار؟ هل أخبره أحد بأن الغوطة محاصرة؟ *** يبحث صديقي عن حذاء جديد، فالحذاء الذي ينتعله منذ عامين لم يعد صالحاً. "ماعم لاقي بوط حلو بالغوطة. بس أطلع بدي أشتري بوط أسود جلد، وجاكيت متل جاكيت الطقم، وألبسهم مع بنطلون جينز". أخيراً، ينجح في العثور على حذاء كحلي وبني. يرسل إلي صورته، "ما حلو صح؟ بس والله ما لاقيت غيرو. أحسن من بلا". أتذكر صوراً نشرها أحد الإعلاميين الموالين للنظام السوري منذ أشهر، حين تفاخر بارتداء بشار الأسد السترة نفسها في أكثر من ظهور إعلامي، معتبراً ذلك دليلاً دامغاً على تواضع الرئيس السوري الذي لا يأبه بالمظاهر، بعكس معظم رؤساء دول العالم. "لا تزعل. هي بشار الأسد صار عم يلبس نفس الجاكيت كذا مرة. يا حرام ما معو مصاري يشتري غيرو، أو يمكن محاصر وما قدر يلاقي جاكيت جديد". لا يبتسم صديقي كثيراً للمزحة. ينهي الحديث ويعود لتفحص الحذاء الكحلي والبني الجديد. "مو لابق مع البنطلون والجاكيت. بس أحسن من بلا. أصلاً الجاكيت كمان صار قديم وبدو تغيير". *** لغة الحصار لا يفهمها إلا من هم فيه. نحن نعيش خارجه، وإن كنا قريبين جغرافياً، فنحن غير قادرين على رؤية هذا العالم الرمادي أو حتى تصوره أو الاقتراب منه. عالم يُشرب فيه الشاي من دون سكر، وتُنتعل فيه أحذية غير لائقة ليس تواضعًا، بل لزاماً، ولا أحد يأبه بخطابات بشار الأسد التي تفوقها أهمية أسعار الخبز والشاي والسكر بكل تأكيد. هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. جنا سالم صحافية سورية مقيمة في دمشق. التعليقات
مشاركة :