جبريال يارد‬.. الموسيقار السينمائي

  • 11/8/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

محمد رُضا الموسيقار اللامع جبريال يارد، هو العربي الوحيد الذي تسلم «أوسكار» في تاريخ هذه الجائزة في سنة 1969 وهو من كتب موسيقى فيلم «المريض الإنجليزي». وفي العام التالي كان من بين الفائزين ب «الأوسكار» عن هذا الفيلم الذي خرج بما مجموعة تسع جوائز أوسكار من بينها أيضاً أوسكار أحسن فيلم وأحسن إخراج.صحيح أن جبريال يارد يعيش في فرنسا ويمارس عمله هناك ويحمل هويتها، لكنه في الكثير من أحاديثه ينبري ليذكر بأنه عربي وُلد في لبنان، وأنه فخور بأنه يحمل في ذاته، أكثر من ثقافة ما يساعده على وضع موسيقى الأفلام السينمائية فريدة في ألحانها وثرية في مصادرها ومتأثرة بتلك الثقافة الجامعة بين ما هو شرقي في الصميم، وما هو في الفن غربي.وُلد في مدينة بيروت قبل 68 سنة ودفعه والده ليتعلّم عزف «الأكورديون» قبل أن يبلغ العاشرة من العمر. وفي غضون أشهر قليلة انتقل جبريال من «الأكورديون» إلى البيانو وفاجأ والده بمهارته وسرعة تعلمه.مهارة جبريال يارد كانت فائقة إلى درجة أنه في سن الرابعة عشرة أصبح في عداد الفرقة الموسيقية لجامعة سان-جوزيف المؤسسة في بيروت منذ العام 1875. والده كان يدرك أن الموسيقى، والفن الجميل عموماً، لا يمكن أن يكونا عملاً مستقلاً يؤسس لمستقبل ابنه فوجهه لدراسة القانون ما جعل الابن ينتقل من دراسة باخ وشومان إلى ممارسة نظريات القانون من عصر توماس أكويناس (القرن الثالث عشر) إلى عصر أوليفر هولمز (القرن الماضي).يارد استغل وصوله إلى باريس سنة 1969 للانقلاب على عقبيه ودراسة الموسيقى من جديد في العام 1971 حين اشترك في مسابقة غنائية لمهرجان، أريد له إسداء تحية للجالية اللبنانية هناك. الأغنية التي وضع ألحانها فازت بالجائزة الأولى ما شجعه هناك لتأليف فرقة أوركسترا صغيرة.في ذلك الوقت تشرّب جبريال يارد الفن الموسيقي العربي في أتونه المشرقي، ثم مال إلى الفن البرازيلي الذي يكن له، حتى اليوم، الكثير من التقدير، وكل هذا من قبل أن يبدأ في منتصف السبعينات مرحلة جديدة اتسمت بالحرفية واتجهت للإنتاج المنفرد والعمل على نحو من يرغب لفنه أن يصبح عالمه المهني الوحيد أيضاً. أولى إطلالاته في هذا الشأن كان وضعه الموسيقى لعدد من الأغاني التي أطلقتها المغنية الإيطالية مينا ماتزيني في العام 1975 وتميزت فعلاً بإيقاعها المختلف والثري في ألوانه.في العام نفسه، وضع موسيقى فيلم فرنسي عنوانه «الآنسة أو جيني ومغازلاتها الرجالية» إخراج سامي بافل. وبعده بعام وضع موسيقى فيلم كلود ليلوش «فرصة ثانية». ثم غاب عن هذه الساحة لخمس سنوات ليعود موسيقاراً لفيلم جان-لوك جودار «كل لنفسه»، كما سُمي بالإنجليزية أو Sauve qui peut بالفرنسية. تفاصيل فنيةتبعاً لهذا النجاح وضع موسيقى فيلمين لمارون بغدادي: «حروب صغيرة» و«الرجل المحجب» ولجان-جاك بيانيكس «القمر في البالوعة» و«بيتي بلو» وكوستا-جرافراس الفيلم المنسي «هانا ك» وليوسف شاهين «وداعاً بونابرت» كما لجان-جاك أرنو «العاشق» و«أجنحة الشجاعة» ولكثيرين سواهم.كان طموحه نقل فنّه إلى «هوليوود». كان خلال الثمانينات قد وضع موسيقى بضعة أفلام أمريكية مستقلة وبعض الإنتاجات البريطانية أو الناطقة بالإنجليزية على أي حال، لكنها لم تقرّبه إلى أفلام المؤسسات الكبرى بإنتاجاتها الضخمة.هذا تغير سنة 1966 عندما انتخبه المخرج الراحل أنطوني مانيللا لوضع موسيقى فيلمه الجيد «المريض الإنجليزي»، الذي اكتسح، في العام التالي، أهم أوسكارات أكاديمية العلوم والفنون السينمائية في هوليوود إذ فاز بتسع جوائز كان بينها أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل تصوير، كما كان من بينها أوسكار أفضل موسيقى استلمها جبريال يارد لتتخاطفه كاميرات الصحافة ويشهد له، اللبنانيون على الأخص، بالتفوق البارز.كم هي بعيدة موسيقى يارد هنا عن أشهر أفلام الصحراء، وأعني به «لورنس العرب»، كما وضعها هناك الفرنسي موريس جار. تلك احتفت بالصحراء كموقع فقط وبالحدث كصورة. صحيح أنها مناسبة لما كان يبحث المخرج ديفيد لين عنه، لكنها لا تبتعد عن فعل التناسب كثيراً، على عكس ما اختاره يارد لموسيقى «المريض الإنجليزي».لابد من التوقف هنا عندما يجعل موسيقى جبريال يارد مميّزة عن سواها وفيما يؤلف ملامحها الفنية ككل.يشتغل يارد على الثقافات المختلفة شرقية، وقت اللزوم، وعالمية في أحيان عديدة، لكن عالميتها لا تستبعد الشرق القريب، ففيه لمسات يونانية وحتى عربية، كما برهن قبل سنوات عندما اختارته سلمى حايك لوضع موسيقى فيلمها «جبران».ونلاحظ حين نمعن السمع في التفاصيل، أن مطلع موسيقاه لفيلم «بيتي بلو» للمخرج جان- جاك بينكس، 1986، وهو دراما رومانسية فرنسية خالصة يبدأ بعزف على الأكورديون. هنا أوجد يارد لآلته الأولى مكاناً في حرفته مستمداً من العزف الفرنسي المتداول لتلك الآلة في البيئات الشعبية المختلفة. يليه على الفور قيثارات يونانية، في حين أن الموسيقى ذاتها مستمدّة من تلك التي كانت تُسمع في كلاسيكيات إيطالية بمنوال سريع وخفيف جاذب.ما إن يصل به الزمن إلى العام 1996 عندما وضع موسيقى «المريض الإنجليزي» حتى نجده قد أدار ظهره للمكانيات وانصب على تأليف «نوتات» كلاسيكية السند يستخدم فيها البيانو بعزفه والناي البعيد (الفلوت) وآلات الكمان تتماوج بخفوت، حتى في الحركة الثانية، كما لو أنها تعبّر عن حالة شجن تعيش في الذاكرة، وهو ما يتمحور الفيلم حوله.المشهد الذي نرى فيه راف فاينز في هذا الفيلم وهو يمضي فوق رمال الصحراء عند المغيب هو ذاته الذي يحاول فيه جبريال يارد نقل سمات تلك الطبيعة بالهدوء والسكينة التي تتميز بهما الصحراء. الموسيقى هنا تنتقل لتغطي المشهد التالي لفعل الكتابة على ضوء مصباح. لا تتغير بتغيّر المشهد، بل تنسج ما يوحد بين كل تلك المشاهد. وصول فاينس إلى مدخل كهف معبّر عنه بارتقاء خفيف جدّاً للحن على عكس ما قد يذهب إليه موسيقار آخر ليحتفي بالمشهد المناسب بقدر من الحس الموسيقي العالي.بعد عامين نجد الموسيقار الشهير يضع لحناً لفيلم «مدينة الملائكة». في تأليف يارد لهذه المقطوعات المصاحبة ما استمدّه من أسلوب عمل على «المريض الإنجليزي» مع جرأة لتطويع الفواصل الدراماتيكية بصوت أعلى. هذا ما زال يقع متباعداً، لأن الهادي والساكن في موسيقاه المعبّر عنه هناك بالبيانو مرّة أخرى هو الأساس.يختلف الكثير من أدوات العزف في عمله اللاحق على فيلم يختلف، بدوره، عن الأفلام السابقة التأليف لها. في الشريط الكرتوني «أزور وأسمار» 2006 يبدأ بصوت يقرأ بالعربية الفصحى ويكرر بالفرنسية على وقع البيانو (صوت جبريال يارد غالباً). وإذ يدخل صوت الممثلة هيام عبّاس على الخط، تغيب موسيقاه قليلاً ثم تُسمع في الخلفية.في مقطوعة لاحقة معنونة باسم «الأرض الجميلة» يبدأ بالعزف على العود ثم الناي ويعتمد الآلات والحس الشرقي قليلاً قبل أن يدخل عليه البيانو والكمان الغربيان. اللحن ذاته يأتي مشبعاً بالإيقاع الشرقي رغم البيانو والكمان، وكلاهما محدود الاستخدام نسبياً، وهو إيقاع يذكّرنا بذلك الذي قرر استخدامه، إلى حد مقبول، في فيلم مارون بغدادي «حروب صغيرة»في سنة 1999 كتب يارد عملاً جديداً للمخرج أنطوني منجيلا مقتبساً من رواية شهيرة للكاتبة باتريشا هايسميث هي «السيد ريبلي الموهوب».حينها كانت شهرة يارد انتشرت في «هوليوو» وحول العالم. الحكاية هنا بوليسية قام ببطولتها الممثل مات دايمون جيداً، لكن الصورة التي منحها للدور تختلف عن تلك التي تعامل المخرج منجيلا معها في «المريض الإنجليزي». وهذا فتح لجبريال يارد الباب واسعاً للاستفادة من النوع التشويقي للفيلم الجديد. لا تزال المقطوعة الافتتاحية، مثلاً، تعتمد أوركسترا من الآلات الأساسية لديه: كمان، بيانو، فلوت مستبعدة الآلات النحاسية والطبول والهرمونيكا، وهذه استخدمها في مؤلفات أخرى أنتجت كأسطوانات، لكنها ذات دفعة أقوى تأثيراً. والمشترك بين المقطوعتين نسيجهما الكلاسيكي في الوقت ذاته. يارد يقترب من موتزار وشومان ومولر ولا يلمس أياً منهم، بل يؤلف ما يذكّر بثقافة الموسيقى الكلاسيكية في أزمنة هؤلاء.بمقارنتها بموسيقا جيري جولدسميث وجون أوتمان وألان سيلفستري، هي موسيقى واضحة. كل آلاتها مسموعة ومفصّلة العزف والإيقاع. لا شيء فيها داكن.لكنها ليست موسيقى بلا تشابهات وتقاطعات مع موسيقيين سينمائيين آخرين أخصّهم الأمريكي مارك إيشام الذي وضع موسيقى أفلام عدّة لروبرت ألتمن وتلميذه ألان رودولف وأنجيلو بادالامنتي، ومن أعماله الحديثة «ستالينجراد» للروسي فيدور بوندراتشوك، 2013.على تقارب ما بين مواهب هؤلاء الثلاثة تحديداً، ينفرد كل منهم عن الآخر في التفاصيل الكبيرة قبل الصغيرة. بالنسبة ليارد، فإن استيحاءاته من الثقافات يبقى عاملاً أكثر تميّزاً، فالمرء لا يستمع إلى معزوفات شرقية تقليدية وأخرى غربية نمطية، بل قدرة المؤلف يارد تتجلّى في اعتمادهما كخلفية وتمازجهما في بعض أعماله عند الحاجة. وإذا ما كانت الحاجة متمثّلة بفيلم «المريض الإنجليزي» نظراً لموقع بعض أحداثه، تلك الصحراء المغربية الكبيرة فإنها ملحوظة أيضاً على طول خط «وداعاً بونابرت» 1999 ليوسف شاهين. تتوهج في مشهد معركة الأهرامات، وتحنو في الفصل المعنون ب «موت يحيى». وبينما لا تنقل الموسيقى الشرقية كما هي ولا الغربية كما هي، بل تمزج بين الاثنتين، فإن هذا المزج ما يصنع تميّزها الفني على نحو مشهود.لا يكف الموسيقار عن العمل. منذ بدايته وضع موسيقى أكثر من 100 فيلم، وهذا العام نستطيع أن نسمع موسيقاه تنساب في الفيلم العاطفي الجديد «لو رأيت قلبه».

مشاركة :