نشرت صحيفة التلغراف البريطانية في عددها الصادر في السادس من أغسطس 2013 ، نتائج دراسة مكثفة على أطفال أدمنوا استخدام الآي باد والآي فون والتابلت المشابهة لها منذ صغرهم ولعدة ساعات في اليوم تصل إلى أربع ساعات أحيانا. كشفت نتائج الدراسة بأن هؤلاء الأطفال قد تعلقوا بهذه الأجهزة بطريقة مرضية لدرجة أن حرمانهم منها أدى إلى أعراض انسحابية أو Withdrawal symptoms تشبه تلك الأعراض المصاحبة للتوقف عن الكحول أو حتى الهيروين لدى مدمنيها!، فالطفل يبكي بكاء شديدا ويبدو مضطربا تماما يدور في حلقات مفرغة ليبحث عنه وتصيبه نوبات غضب حادة يعبر عنها بالصراخ والركل والتحطيم أحيانا ولا يمكن للأهل أن يهدؤوه بأي وسيلة أخرى إلا بإعطائه الجهاز ثانية وعندها فقط يستتب الأمن. وجاءت نتائج هذه الدراسة بمثابة صاعقة لكثير من المربين والمعلمين وعلماء النفس الإكلينيكيين. فهذا الإدمان قد وصل إلى درجة «استحواذ» وإدمان مرضية تحرم الطفل من التواصل الاجتماعي والأسري ومن اكتساب مهارات الحياة ضمن مجموعة فيها أخذ وعطاء ــ وتعوق الطفل عن اكتساب مهارات اللغه وتؤدي لتأخر في الكلام لدى نسبة لا يستهان بها من الأطفال حسب رأي متخصصي التخاطب وحتى أن علماء الطب النفسي الإكلينيكي يؤمنون بأنها تزيد حالة الأطفال المصابين بالتوحد سوءا إذا لم تكن هناك رقابة على استخدامها بطريقة مدروسة ومقننة، وأما الأطفال الآخرون فيبدون رغبة شديدة في العزلة مع الجهاز وعدم التواصل الاجتماعي وعدم الحركة مما يؤدي للسمنة والخمول وحتى أعراض الاكتئاب. كما يؤدي التنافس على استخدام الجهاز بين الإخوة في البيت الواحد إلى التردي في العلاقات بينهم وعدائية وتوتر في المنزل. فيلجأ الأهل للحل الأسهل وهو شراء أجهزة أخرى للأطفال الآخرين وتبدأ الدائرة المفرغة من جديد ــ فالذي لديه جهاز أحدث يبدأ في استفزاز الآخرين فيكيدون له ويتصيدون وقت تركه للجهاز ليلعبوا به وتبدأ الحرب من جديد. وربما يذكر القراء الأعزاء ممن كانوا أطفالا في العهود السابقة كيف كان التلفزيون نقطة تجمع بين الإخوة في العائلة الواحدة ــ بخلاف الذي يحدث اليوم مع الآي باد. وعند تدخل الأهل بإخفاء الآي باد يبدي الطفل أعراض الحرمان من هذا الأدمان ويصبح خارج نطاق السيطرة. مما جعل بعض أولياء الأمور يقصدون المتخصصين في العلاج النفسي والسلوكي لعلاج أطفالهم من هذا الإدمان. وأحد أشهر المتخصصين في مجال العلاج النفسي والسلوكي للأطفال مدمني هذه الأجهزة هو الدكتور ريتشارد جراهام وهو أول من أسس في بريطانيا برنامج مكافحة إدمان التكنولوجيا ــ وأصغر مرضاه اليوم طفلة في الرابعة من عمرها. وهو يعتقد بأنها واحدة من كثيرين غيرها. ويدفع الآباء الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لعلاج أبنائهم من هذا الإدمان الذي يحرمهم من التواصل الاجتماعي واللغوي والتحصيل المدرسي الطبيعي المبالغ الطائلة لإخضاع أبنائهم وبناتهم «لبروجرام» العلاج المقترح من قبل الدكتور جراهام. فبرنامج العلاج يستمر ثمانية وعشرين يوما وتبلغ تكلفته ستة عشر ألف جنيه استرليني ويسمى “digital detox” أي التخلص من سموم الأجهزة الرقمية وهو برنامج يقدمه مستشفى كابيو نايتنجيل في لندن. ويضطر الأهل لهذا العلاج المكلف لأنهم في حال ترك الطفل بلا علاج يعجز الطفل عن التحصيل المدرسي السوي والانخراط في المجتمع والأسرة بطريقة طبيعية والتطور اللغوي وتطوير مهارات التواصل ومن ضمنها فهم رموز لغة الجسد المعبرة عن الانفعالات والشعور المختلف، فالأطفال مدمنو هذه الأجهزة يبدون ضعفا في مهارات التواصل البصري بصفة خاصة وفهم لغة الإشارة وغيرها من إشارات التواصل بين الناس ما لوحظ من مما يؤدي لمشكلات سلوكية وعدائية تدخله في دائرة مفرغة من الغضب وعدم الإندماج وعدم القدرة على النجاح في الحياة الدراسية والعملية ربما بعد ذلك. ويحلل المتخصصون هذه الظاهرة بأنها نتيجة لتعلق الآباء والأمهات أنفسهم بهذه الأجهزه ــ فالطفل يولد محاطا بها ويرى من حوله يستخدمونها. وبالطبع هي أجهزة مثل غيرها ــ لها فوائد لا تنكر. فهي ممكن أن تستخدم كوسائل تعليمية تعلم الطفل الأرقام والأحرف والقراءة والالوان وغيرها وحتى القرآن فهناك برامج تقرأها للطفل. ولكن المهم هو اختيار البرامج الهادفة وتحديد وقت محدد لها والتأكد من وجود التوازن في حياة الطفل بين اللعب الطبيعي مع أطفال آخرين والحركة وتنمية الموتور سكيلز أو قدرات التحكم الحركي والتواصل الاجتماعي والتخاطب وغيرها من النشاطات. وحسب دراسة أخرى في نفس المجال فإن الأطفال الصغار في سن الثالثة أو الرابعة مثلا يقضون حوالى عشر ساعات مستيقظين ــ فلو قضوا منها 4 ساعات في لعب سلبي بهذه الأجهزة لمثل ذلك 40% من إجمالي ساعات استيقاظهم وهي نسبة كبيرة جدا. ويقدر علماء النفس ازدياد عدد مدمني الأجهزة الرقمية من الأطفال بنسبة ثلاثين في المائة في السنوات الثلاث الأخيرة. والمصيبة العظمى بأن منتجي هذه الأجهزة التكنولوجية الحديثة يستهدفون الأطفال استهدافا مباشرا ــ فهناك أغلفة الآي باد الملونة المخصصة للأطفال والتي تقوم بدعمه ليستند على الطاولة أو الأرض ليسهل للطفل المشاهدة واللعب ــ وهناك أحجام مختلفة «للتابلت» الجديدة للسيارة وللحقيبة وللسفر وغيرها. ولكن ما أضحكني كثيرا وأتمنى ألا يسمع به أطفالنا هو «الآي بوتي» I-potty – والبوتي هي أكرمكم الله ــ النونية أو بلغة أهل الحجاز ــ القصرية ــ وهي عبارة عن كرسي صغير من البلاستيك الملون يجلس عليه الطفل ليتعلم استخدام التواليت مثل الكبار. فآخر الاختراعات الآن في مجال التكنولوجيا هو الآي بوتي وهو عبارة عن مقعد تواليت لتعليم الأطفال استخدام مقعد التواليت بدلا من الحفاظة ــ وأنتم بكرامة ــ ولكنه مجهـز بآي باد ملتصق به يسلي الطفل ليغريه بالجلوس لأكثر فترة ممكنة على القصرية. ولكن ماهو الحل؟.. يقترح علماء النفس والمعلمون رسم الحدود وذلك يشمل تحديد وقت معين لاستخدام الجهاز لا يتجاوزه الطفل. كما يقترحون تحديد البرامج التي يلعبها الطفل بأن تميل لأن تكون تعليمية ولو كانت ترفيهية فيجب ألا تعلم الأطفال العنف أو غيره من الصفات السلبية. كما يقترحون عدم الانسياق لرغبات الطفل بشراء الأحدث والأجد والأجمل من هذه الأجهزة كلما صدر منها الجديد ومحاولة تعليم أو إقناع الأطفال بالمشاركة في الجهاز ولا أدري لو كان هذا ممكنا على أرض الواقع مما أراه يحدث بين الأطفال. كما يقترحون تنويـع أساليب تسلية الطفل بحيث تتضمن ألعابا ونشاطات حركية.. وأتمنى أن نحاول نحن الكبار أيضا من تخفيف استخدامنا لهذه الأجهـزة فأطفالنا يقلدوننا. وحرام أن يضيعوا أجمل سنوات عمـرهم محشورين في زاوية من المنزل مع جهاز بينما العالم الخارجي ينتظرهم وهو مليء بكل ماهو جميل وممتع.. أصدقاء وطبيعة ورياضة وفن وجمال وتراث وألعاب جماعية مسلية تنمي روح المشاركة والتنافس الصحي والانخراط الطبيعي في مجتمع سليم.
مشاركة :