تتهيأ دولة الإمارات العربية المتحدة لتطلق إلى العالم تجسيداً رائعاً لأحد أعمق القيم الإنسانية، والذي يكشف عن هشاشة الفوارق التي طالما فرقت الناس ولم تجمعهم؛ فتحت القبة المذهلة لمتحف اللوفر أبوظبي الذي يفتح أبوابه غداً، يجتمع تراث كل الحضارات والديانات التي عرفها العالم منذ أن بدأ الإنسان يترك أثره على الأرض. أتوقع أن تكون صالة عرض «الديانات العالمية» محط اهتمام زوار المتحف الذي يتخطى الحدود بمختلف أشكالها، إنها صالة ذات تأثير عالٍ لفهم جوهر الإنسانية والذي يتطلب ما يفوق التسامح، بل أيضاً التواصل بين الحضارات. وأعتقد أننا نعيش هذا الواقع ونتعايش معه على مستويات مختلفة، لكن ربما لا نميزه في خضم التفاصيل اليومية، فالتواصل الإنساني في حقيقته قائم على التقبّل؛ تقبل الآخر، تقبل الاختلاف، تقبل التنوع، تقبل غير المألوف، تقبل التمازج، تقبل التفاعل، وتقبل ما ينتج عن التفاعل. في داخل هذه القاعة النموذجية في نظري، تُعرض الكتب المقدسة جنباً إلى جنب، في مشهد عميق الدلالات، ليس على مستوى سمو التوجيه السماوي فقط والذي يسعى إلى الرقي بالإنسانية، بل أيضاً في أسلوب تلقي البشر لهذه الديانات، إذ تظهر روعة ودقة الفن في تقديم النص المقدس عند تدوينه بمختلف أشكاله، فاستقبال البشر للتوجيهات الروحية يكاد يكون على نفس القدر من التبجيل والقدسية، لتظهر الكتب المقدسة التي شكلت وجدان البشر في كل مكان وعلى مر العصور قطعاً آسرة من الدقة الفنية. تعد الصفحة من «المصحف الأزرق» المعروضة في هذه الصالة إحدى القطع النادرة حول العالم، فهي تعود إلى القرن التاسع الميلادي، وتم خطه على ما يبدو لصالح أحد الأثرياء في شمال أفريقيا أو إسبانيا أو صقلية، فقد استخدم الذهب في كتابة النص القرآني على نوع نادر من الورق المصبوغ بالأزرق، وتذكر هذه الصفحة بالخطوطات الإمبراطورية البيزنطية التي ميزها اللون الأرجواني، فهل كان الخطاط المسلم يقتفي أثر التراث البيزنطي الذي وصل حتماً لتلك المنطقة من العالم، أم أنه كان محض ابتكار؟ ومن العصور الوسطى، تُعرض نسختان أصليتان لمجلدين من الإنجيل القوطي النادر، يعود على الأرجح إلى الفترة من 1250 إلى 1280 في باريس، ويتضمن 81 مُنمنمة مذهلة في تفاصيلها وتبث الحياة في قصص العهد القديم، وتلقي الضوء على طبيعة الحياة في عصور توصف بالظلامية. ويمثل هذا الإنجيل إحدى المحطات التاريخية في انتشار المسيحية في أوروبا انطلاقاً من بيت لحم بعد اعتماد الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس أو ما يعرف بالفولغات في أوائل القرن الخامس بعد الميلاد، حيث حلت محل الترجمات العديدة التي كانت معروفة بالترجمة اللاتينية القديمة الإسبانية، وبعد انتهاء الامبراطورية الرومانية ظهرت حاجات لغوية حديثة حتمتها طبيعة التطور المجتمعي. ومن صنعاء باليمن، يعرض مخطوط توراة أو ما يعرف بأسفار موسى الخمسة يعود إلى 1498، وكانت التوراة تخلو من الرسومات التصويرية، بل كانت تزين بزخارف هندسية، وهو أسلوب مقارب لزخرفات انتشرت لاحقاً في ظل ديانات سماوية أخرى. وتكتمل هذه التوليفة المقدسة مع نصوص بوذية وهندوسية تعكس التأثيرات المشتركة التي تركتها الديانات العالمية على الإنسانية، والأساليب المتنوعة في روعتها لتجسيد روح التوجيهات الدينية عبر العصور، ويمكنني القول إن صالة عرض «الديانات العالمية» تعد اختزالاً لتاريخ الإنسانية في طريقها نحو السماء، حيث تتقارب الشعوب في التعبير عن الانتماء الديني أو تبجيل المعتقدات، وهو أمر يخالف التصور السائد بأن المعتقدات الدينية مختلفة أو متناقضة أو أنها تشكل هويات محددة تلغي ما عداها. لقد أصبحت الإنسانية في حاجة ماسة للعودة إلى الغاية الكبرى من الوجود لوضع حد للصدام الفكري والحروب الإلغائية وهيمنة طرف واحد. وآمل أن كل من يدخل جناح الديانات العالمية في متحف اللوفر أبوظبي يتأمل في الكنوز المقدسة ملياً، وحتماً سيجد في داخله انعكاساً ما لها.
مشاركة :