كان أندريا بيرلو يعشق المزاح وإطلاق النكات على زميله غنارو غاتوزو. كان لاعبا خط الوسط يلعبان جنباً إلى جنب لأكثر عن عقد مع «ميلان» والمنتخب الإيطالي، وفازا معاً بشتى البطولات من الدوري الإيطالي الممتاز إلى كأس العالم ودوري أبطال أوروبا. وسرعان ما ربطت بينهما أواصر الصداقة، لكن هذا لم يمنع بيرلو من سرقة هاتف غاتوزو ذات يوم وإرسال رسالة إلى وكيل أعماله يعرض خلالها عليه شقيقته مقابل تحسين شروط التعاقد بينهما. ومع هذا، لم يكن مثل هذا المزاح أكثر ما قض مضجع غاتوزو، وإنما واجه اللاعب صعوبة أكبر في التكيف مع الأزمات الكارثية التي أثارها التدريب إلى جوار مثل تلك الموهبة المتفجرة. وفي إحدى المناسبات، قال غاتوزو مازحاً: «عندما أشاهد بيرلو يلعب بالكرة وأرى حركة الكرة بين قدميه، أتساءل مع نفسي ما إذا كان يحق لي بالفعل وصف نفسي كلاعب كرة قدم من الأساس». الآن، لم يعد بيرلو نفسه لاعب كرة قدم، بعدما أكد قراره بالاعتزال في أعقاب خروج «نيويورك سيتي»، النادي الذي قضى في صفوفه العامين الأخيرين ونصف العام من مسيرته الكروية، من التصفيات الختامية لبطولة الدوري الأميركي لكرة القدم. بعد ستة شهور من إعلان فرنشيسكو توتي اعتزاله، تودع كرة القدم الإيطالية نجماً آخر من نجومها الأسطوريين. وبينما ظل مهاجم «روما» على تمسكه باللعب مع ناد واحد فحسب، فإن بيرلو كان النقيض تماماً، لقد كان مثالاً نادراً على لاعب تنقل ما بين أندية منافسة كبرى دون أن يفقد عشق جماهير أي منهم تجاهه. وحتى هذه اللحظة، لا يزال معشوقاً داخل «ميلان»، مثلما الحال تماماً في تورينو معقل يوفنتوس وفي كل مكان آخر شارك به. وعند النظر إلى الوراء، يبدو من الصعب تحديد النقطة التي تحول عندها بيرلو من لاعب مشهور محلياً إلى أيقونة عالمية. هل كان ذلك عام 2006 عندما شارك في حمل كأس العالم، أو ربما ركلة الجزاء التي نجح خلالها في خداع جو هارت حارس إنجلترا خلال بطولة «يورو 2012»؟ أو ربما عندما نشر سيرته الذاتية مترجمة إلى الإنجليزية؟ كل ما نعلمه على وجه اليقين أنه عند نقطة ما خلال مسيرته الكروية تمكن من الوصول إلى أعلى مراتب الشهرة في عالم كرة القدم، المرحلة التي يصبح فيها اسم اللاعب مرتبطا للمركز الذي يشارك به. ويعرف «مركز بيرلو» عالمياً وهو أفضل الأدوار التي تألق بها النجم الإيطالي حيث المرابطة أمام الدفاع لالتقاط الكرات ثم تمريرها بذكاء ودقة للمهاجمين. من السهل أن ينسى الناس أن هذا لم يكن المركز الذي يود بيرلو اللعب به، لكن في الواقع، لقد ذاع صيت بيرلو كموهبة خاصة قبل فترة طويلة من انضمامه إلى الفريق الأول لبريشيا عام 1994. وفي ذلك الوقت كان يضطلع بدور المهاجم صاحب القميص رقم 10. وبعد فترة عصيبة قضاها مع «إنترناسيونالي»، عاد لناديه الأول على سبيل الإعارة، وفي هذا الوقت كان الفريق يضم المهاجم الشهير روبرتو باجيو في صفوفه. واضطر المدرب كارلو مازوني إلى نقل بيرلو إلى وسط الملعب كوسيلة للإبقاء على كلا اللاعبين في التشكيل الأساسي. وحتى يومنا هذا، لا يزال باجيو يؤكد أن الهدف المفضل بالنسبة له ذلك الذي أحرزه لصالح بريشيا في مرمى «يوفنتوس» عام 2001، وذلك بفضل كرة أطلقها بيرلو من مسافة 35 ياردة لتعلو رؤوس خط الدفاع قبل أن تصل إليه ليسجل منها. والتساؤل هنا: كم عدد اللاعبين الآخرين الذين يدينون بالفضل لبيرلو عن أبرز الأهداف التي سجلوها عبر مسيرتهم في الملاعب؟ يأتي فابيو غروسو على رأسهم بالتأكيد، والذي تحقق هدفه في مرمى ألمانيا خلال مباراة قبل النهائي ببطولة كأس العالم عام 2006 في الوقت الإضافي بفضل كرة مررها بيرلو إليه على نحو مذهل حتى دون أن ينظر باتجاهه. في الواقع، كان عدم الاكتراث ذلك جزءًا من هالة السحر التي أحاطت بيرلو، وقد تعززت روعة التكنيك الذي ينتهجه اللاعب من خلال الجو اللطيف الذي ينثره حوله في خضم أكثر اللحظات توتراً في مسيرته. وعلى ما يبدو، فإن هذا الأمر بدرجة ما كان مجرد مظهر سطحي لا ينم عن حقيقة ما يدور بداخله، وقد أقر بيرلو في سيرته الذاتية أنه يملك موهبة الإبقاء على مشاعره خفية عمن حوله. كما اعترف في الكتاب ذاته أنه لم يستمتع قط بفكرة الجري بهدف الجري فحسب. وفي هذا الصدد، كتب بيرلو في مذكراته يقول: «الجزء الذي عجزت تماماً عن تعلم تقبله في عملي هو عملية الإحماء قبل المباراة. في الحقيقة، كل خلية في جسدي تكره هذا الأمر، بل إنه يشعرني بالتقزز. إنه مجرد وسيلة سخيفة لإرضاء المدربين على حساب اللاعبين». الواضح أن الإحماء قبل المباراة أحد الأمور التي لن يفتقدها بيرلو بعد الاعتزال. واللافت أن ثمة صراحة مثيرة للإعجاب في الأسلوب الذي مهد بيرلو لاعتزاله مسبقاً خلال مقابلة أجرتها معه صحيفة «لاغازيتا»، وذلك عندما شرح، وكان في الـ38 حينها، تفاقم الضغط العصبي المرتبط بالحفاظ على اللياقة البدنية قبل كل مباراة على نحو بالغ. وقال: «تدرك حينئذ أن لحظة رحيلك قد حانت. في كل يوم تعاني مشكلات بدنية، ويصبح من المتعذر عليك التدريب لأنك تعاني مشكلة صحية مختلفة. وفي مثل عمري، لا بأس أن يعلن المرء أن (هذا يكفي)». جدير بالذكر أن بيرلو بكى داخل الملعب بعد خسارة مباراة نهائي دوري أبطال أوروبا مع يوفنتوس عام 2015. لكن على خلاف الحال مع معظم زملائه فإنه حمل بالفعل درع البطولة من قبل مرتين. ومع مشاركته في الفوز ببطولة كأس العالم للأندية وبطولتي كأس السوبر الأوروبية، فإن بيرلو يكون بذلك قد اقتنص جميع البطولات الكبرى المتاحة أمامه. وعليه، ربما يشعر المرء بالدهشة بأن أياً من ذلك لم يعن له أكثر من حلم حياته الذي حققه بالمشاركة على ملعب استاد ماراكانا البرازيلي في إطار بطولة كأس القارات عام 2013. وقد حمله الهدف الذي سجله هناك من ركلة حرة إلى آفاق لم يبلغها خياله من قبل ولا حتى في أحلام الطفولة. يتميز بيرلو بروح تنافسية قوية ولا يحاول أبدا إخفاء المرارة التي تتملكه حال التعرض لهزيمة، لكنه في الوقت ذاته هو شخصية حالمة ـ وقد نجح بالفعل في تحقيق توازن بين هذين الجانبين في شخصيته. وبمقدور المرء تفهم لماذا بدا كل ما يحيط ببيرلو عصياً على التصديق بالنسبة لشخص مثل غاتوزو والذي نجح في بناء مسيرة كروية جيدة عبر سبل أكثر بساطة وتقليدية. ومع هذا، يبقى هناك من يقدرون الذكاء والتألق حق قدره، وربما تكون عبارة الثناء الأكثر بلاغة التي نالها بيرلو هي تلك التي ذكرها جانلويجي بوفون، الذي ربما يعد أفضل حراس مرمى هذا الجيل على الإطلاق، وذلك بعد انتقال بيرلو إلى يوفنتوس عام 2011. وقال بوفون: «عندما رأيت بيرلو يلعب، قلت في نفسي: «الآن أيقنت أن الله يختص بعض عباده بمميزات خاصة».
مشاركة :