بدأت التدريس بالجامعة سنة 2007، ومن وقتها أنا أستمتع بتسجيل الملاحظات ومراقبتها حول التغييرات التي تطرأ على الشباب سنة بعد أخرى، وتدهشني كثيرا السرعة التي تحدث بها، كانت الملاحظة الأولى حول مصادر الفكر الديني لدى الطلاب، فاجأني أن المصادر الدينية لهم ليست تلك التي عهدتها في دراستي حين كنت في مثل سنهم، أنا من مواليد السبعينيات، كان المصدر هو المدرسة والمسجد والعائلة والخطاب الديني الرسمي المهيمن على كل هذا، وأثناء دراستي في الجامعة أواسط التسعينيات ظهر ما يعرف بـ(الدعاة الجدد)، ودار حولهم لغط كبير، لكنني لم أكن أتوقع أبدا أن يتحول لمصدر ينافس الخطاب الديني الرسمي. من خلال الحوارات والنقاشات وورش العمل التي نعقدها في القاعة، كنت ألحظ أن أهم مصدرين للأفكار الإسلامية هما (طارق السويدان) و (عمرو خالد)، هذه الملاحظة تلاشت الآن، لم يعد الدعاة الجدد مصدرا منافسا اليوم، بل تعددت المصادر بشكل غريب، حتى يصعب على المهتم والمتخصص حصرها، فعلى سبيل المثال، في بعض النقاشات المتعلقة بالعقيدة والمتعلقة خصوصا بالإيمان بالله، والتي تكون عادة خارج القاعة بسبب تحرّج الطلاب من أسئلتهم أمام زملائهم، كنت أسألهم عن المصادر فكانت الكتب والمحاضرات باللغة الإنجليزية، ونقاشات عبر الانترنت مع جنسيات مختلفة غير عربية. وهذا لا يعني غياب المصدر الرسمي لدى شريحة واسعة من الطلاب، لكنها تقل، وتصبح غير فاعلة مع الوقت لديهم. تعددية المصادر أعطت الطلاب سعة في أفق التفكير، وقدرة على تفهم الآراء التي لم يكن الطلاب على استعداد لتفهمها سابقا، على سبيل المثال حين يسأل الطلاب عن القضايا الجدلية المتكررة منذ عشرين سنة، كقضية قيادة المرأة للسيارة، أذكر جيدا أنه في 2007م، كان الرفض هو الغالب، ولم يكن رفضا فقط بقدر ما كان تشنجا للأعصاب أثناء الحوار، وسرعان ما يتحول الحوار إلى حوار الطرشان بين أغلبية رافضة وأقلية تؤيد على استحياء، وسنة بعد سنة، تتغير الآراء لسبب يصعب تحديده، وما يمكنني الجزم به أنه في كل سنة يزداد عدد المؤيدين ويقل عدد المعارضين، وتقل أيضا حدة وطريقة النقاش، ويزداد التفهم لمثل هذا الموضوع، بل يبدي عدد ليس بالقليل استياءه من طريقة تعاطي شريحة واسعة من المجتمع والمشايخ والمثقفين لهذه القضية. بشكل أقل حدة يطرق الطلاب موضوع السينما، ويبدو أنه لا يشكل لهم اهتماما كبيرا، وحين يطرق، لا تظهر الأيدي المؤيدة والمعارضة بشكل واضح، كانت ومازالت كذلك. من التغييرات الهائلة واللافتة للنظر قدرة الطلاب على التحدث وإبداء الرأي بشكل مختلف عن السابق، حين يكلّف الطلاب بإلقاء عرض عن موضوع ما، فإن أبرز صعوبة كانت تواجههم الوقوف أمام زملائهم في القاعة بحضور الأستاذ، يظهر الارتباك، وبعضهم ينسى ما كان أعده من قبل، وبعضهم يقف ثم لا يستطيع أن ينطق بكلمة، هذا كان قديما، والآن أصبح الأمر على العكس من ذلك، بل من طريقة إلقائهم يظهر بأنها ليست المرة الأولى، وأن الإلقاء من صلب اهتمامهم، فهم يعتنون بطريقة الوقوف والبداية الصحيحة، وبإلقاء الطرفة العابرة، ويبدون اهتماما بلغة الجسد، هذا الاهتمام ليس أثره على الإلقاء كأداة فقط، بل هو مرتبط بحرية الرأي، وبإحساس الشاب بأنه من حقه أن يتكلم، إضافة إلى أن التحدث وسيلة مهمة من أجل عثور الإنسان على ذاته وتحقيقها. حين نتعرض للأديان والمذاهب الأخرى، وحين نتعرض لأفكار جديدة - نسبيا - على كل طالب، أستمتع بالدهشة الأولى التي يستقبلون بها المعلومة، في السابق كانوا مشغولين بالسؤال والتأكد من المعلومة التي سمعوها للتو، وأعرف أنهم في المحاضرة التالية سيأتونني بآراء تتحفظ أو تفند أو تؤيد هذه الفكرة أو تلك، هذا تغير بشكل كبير ومفاجئ، أصبح الشاب يستمع، ويتأمل وينقد، ويقبل ويرفض، بل في هذا الفصل الدراسي كانت الملاحظة الأبرز أن عددا من الطلاب قال إننا بحاجة لمعطيات أكبر من أجل إبداء رأينا، وهو تطور هائل ومثير للإعجاب في منهجية تلقي المعرفة. هناك مواضيع لا تزال كما هي، فبمجرد الدخول في التفاصيل يبدأ الجدل بسبب التحسس من بعض الأفكار من قبل الطلاب، مثل موضوع الحريات الفردية والمجتمعية، هناك اختلاف يسير في قبول فكرة الحرية، وأهميتها، لكنه قبول على المستوى السياسي أكثر من قبوله على المستوى الديني والاجتماعي. من أهم الملاحظات تلك القابلية العالية التي يتمتع بها الطلاب من أجل تطوير ذاتهم، حين يكون الأستاذ جاهزا لذلك، لست مع من يلوم الطلاب كثيرا ويتهمهم بالكسل، فكثير من السلبيات التي تُعزى لهم سببها أطراف أخرى، كالمؤسسة التعليمية والمناهج والأساتذة. الطالب أذكى مما يتصور القائمون على العملية التعليمية، هم يدركون من اليوم الأول مدى الاستعدادات الموجودة لبدء العام الدراسي، ويدركون قوة وضعف النظام، ومن لحظة دخول الأستاذ لقاعة التدريس وبدء المحاضرة يدركون تمكنه أو ضعفه من المادة، ويدركون الحيل التي يستعملها من أجل ضبط العملية التعليمية، ويسايرونه في ذلك لأنهم لا يملكون سوى المسايرة، ويدركون نظرة المعلم لهم، هل يحترمهم أو العكس، هل يحب وجوده بينهم أو العكس، وبناء على كل هذا يقررون في داخلهم ودون تواطؤ منهم هل سيستجيبون له أم لا، هل ستكون المادة والمحاضرات والنشاطات المتعلقة بالمادة ثرية لهم أم لا؟. أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد
مشاركة :