عندما تكلّم العالم بلغته

  • 11/11/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

د. نسيم الخوري ليس في بلادنا من فروقاتٍ كبيرة بين قيم الآباء وقيم الأبناء وقد لا تكون. هذا يعني إذاً أن هناك فروقات صغيرة تنمو وتقوى بشكلٍ طبيعي وضروري وقد تصبح كبيرة. نعم عندما لا ننظر إلى القيم هنا بالمعاني الدينية والتقليدية والتراثية والأصول بقدر ما ننظر إليها بمعنى المعاصرة وتوليد الابتكارات أوهضمها واستعمال المنجزات المعقدة واستهلاكها. بهذا المعنى نرى بأن الأجيال تبدو وكأنها واحدة في العالم ترضع أحياناً من تسابقها على الأفكار لا من الأرحام التي وضعتها في العالم. تتراجع العواطف! نعم. العواطف ربما تعيق الحضارة. أتبكي العصافير وغيرها من الكائنات إذ تطير في الفضاء الواسع؟ لا أتصور. يكفيك أن ترى الصفوف التي سبقت الفجر في عواصم العرب والعالم لتلقف جهاز «الآيفون 10» وتحقيق الريادة والمعاصرة في امتلاك العالم بنسخته الطازجة الأخيرة لتشاطرني ما أكتب. ما زلنا معاً آباءً وأولاداً تجمعنا الرغبة واللهفة المتشابهة صغاراً أو كباراً ومن مختلف الأعمار في اقتناء النسخات الأولى من كل جديدٍ مبتكر للمتيسيرين منا بالطبع. لكن لنعترف أن هناك فجوات/ فروقات/ اختلافات/ في الخطى والقفزات والسلوك تعبيراً عن القيم بمعنى الخطى الثقيلة أو الخفيفة نحو تقبل العصر وهذه مسألة طبيعية. تتسع الفجوة والمسافات ربما بين الأجيال بسبب الهمة والأعمار وفهم معاني التجديد والتقليد بين من كانوا يحكمون بالأمس دهراً ومن هم قادرون على الحكم الجديد ونسف المجتمعات. نبدو وكأننا نحن وأولادنا من عالمين ورحمين مختلفين لا يلتقيان؟ صحيح. لا يمكنك الخروج من ذريتك إن رفضت العالم التكنولوجي وتفوق الحرية وتدفق الغرائز والملذات. هذا هو التحدي الذي يقتل فيه الآباء والأجداد أنفسهم بالمعنى الرمزي إذا ما عاشوا في كواكب أخرى.من هو الأقوى اليوم في تحديد ملامح مستقبل الأجيال والأوطان؟ الأمهات اللواتي كن يهززن الأسرة كي يغفو الأطفال ويرضعون ويأكلون أم الشاشات المتنوعة التي تسهل النوم وتأسر عقول الأطفال الصغار وهدوءهم وإراداتهم وحاجاتهم ورغباتهم القوية حتى قبل أن يحسنوا النطق أو الكلام؟ هل يستمر الآباء والأجداد الذين كانوا يشكلون مخازن ملأى لضمان المستقبل ويشكلون أيضاً جبالاً/سدوداً عالية في وجه تطلعات البنات والأبناء أم مديرو/ مديرات الشركات العابرة للقارات الذين ينتقلون من أقصى الأرض إلى أقصاها فيعقدون الصفقات ويطوعون المصارف وينشرون الأفكار المعاصرة وهم يتطلعون ويقتدون بالشباب الذين «يحكمون» البشرية ويكدسون الثروات الهائلة عبر الأفكار التواصلية مثل «الفيسبوك» و»التويتر» وغيرها بشكلٍ ناعم جميل ومغرٍ ولا يخلعون ثيابهم القطنية المتواضعة وبناطيلهم الممزقة وكأنهم من كواكب أخرى؟أطرح هذه الأفكار لا لأننا في عصر جديدٍ مشحون بالتفاعلية وضرورة اللحاق بالعصر وكأنه يفرض علينا السباق مع الشمس وقد استهلكنا أطناناً من حبر الإعجاب بها أو رفضها لأنها من صنع الغرب. ولا لأنه لم يعد هناك من أمكنةٍ محجوزة لأصحاب الصف الأول في العالم وبالأحرى باتت تفرض قيم العصر على أولادنا وأحفادنا وشعوبنا لأن يكونوا كلهم في الصف الأول لا فضل فيها لجنس على آخر أو لون على آخر إلا بمقدار فطانته وذكائه الذري وعدالته وفائدته للبشرية ككل. ليس هناك من صفوف ثانية وثالثة ومتأخرة كسولة متفرجة. أولادنا ولا أقول كلهم يركضون نحو الهوية العالمية ويبحثون عن الريادة.أطرحها ولا يمكن لي أو لغيري ألا يطرحها متابعاً ببلاهةٍ أو تعجب أو تحسر وفرح لهذه المتغيرات الهائلة الهابطة في الوطن العربي عبر الشاشات اللامتناهية والتي لا يمكن النظر إليها بعين سلبية أو باردة بقدر العقل المتفهم لأحجام التغيير القاسي والضروري والجميل حيث لا تغيير من دون تغيير آخر. التغيير يفرض التغيير ويستدعي الغير والغير هنا لا يعني الغريب بل يعني الشباب حيث تردم الفجوات بين الأجيال والجنسيات والألوان. وأقرب نماذج تلوح أمامنا اليوم هي في دبي أو في المملكة تلكم الفساد وتكلم التاريخ بمعنى تجرحه وتكلم العالم بلغته وتملك شبابها أو في الكثير من البلدان التي تعجز أجيالها عن التوفيق بين القبض على واقعها وفسادها والقبض في الوقت نفسه على العالم كله عبر شاشات الآيفون. أطرحها لأنك بصفتك العربية والعالمية وبلسانك وعقلك وأحلامك مقيماً أو مهاجراً تحمل العالم وتمتلكه خفيفاً بين يديك وتحمل بلادك عبئاً بين يديك وأمام عينيك بكل تثاقلها وتنابذها ومصائبها فلا تنام لا أمنياً ولا اقتصاديا ولا اجتماعياً. لا يمكن للحاكم أو المسؤول أو القائد الريادي أن يتثاقل في خطواته في العصر الرقمي والمجتمعات الرقمية والحكومات الرقمية خصوصاً إذا ما ولد في رحمٍ مثلث الشكل من العلم العالي والعمل الدؤوب والشجاعة القصوى إلى حدود المجازفة والمغامرة. لا يكفل التعليم العالي والمعرفة قيادة النهضات والمتغيرات ولا يكفلها العمل الدؤوب البليد المتقيد بالزمان والمكان والتراث التقليدي في التفكير والأحكام كما لا يكفلها السكوت عن الفساد والأخطاء واعتماد المسايرة والبحث عن السلامة الفردية والعائلية. لا يضمن مستقبل الشركات ودورة الإنتاج وقيادة الأوطان في هذا العصر إلاّ بتوفر الأضلاع الثلاثة من هذا المثلث حيث النجاح والتفوق والابتكار لا في إدارة. لقد أفضى عصر الفضاء بإبداعاته الاتصالية الهائلة إلى هذا المثلث العالمي في عصرٍ تبحث فيه العقول عن ابتكار الموارد والأسواق والأفكار الدائمة التجدد فتخلق دورة إنتاج ذات هوية عالمية ومتعددة الجنسيات، لكنها مبعثرة أو موزعة على الأفراد والدول والمجتمعات الكثيرة بهدف الاقتصاد ووفق تنظيم وتوازن يستحيل تحقيقهما. drnassim@hotmail.com

مشاركة :