منذ صباها كان كل ما في حياة فرجينيا وولف وتفكيرها يعدّها للجنون الكبير، بدءاً بهاجس الموت الذي لم يبرحها منذ صباها المبكر، وصولاً إلى الجنون الفعلي الذي كان يشكل واحداً من مخاوفها الكبرى. فهي التي ولدت بدايات عام 1882 في لندن وكان من قدرها أن فقدت أمها التي ماتت وكانت الصبية لم تتجاوز الثالثة عشر من عمرها بعد. ولنذكر هنا أن أباها كان واحداً في المفكرين الأكثر بروزاً في زمنه، هو الذي خلف الكاتب ثاكري في رئاسة تحرير مجلة «كورنهيل»، كما وضع عدداً من الكتب الفلسفية والفكرية ومن بينها تاريخ للفكر الإنكليزي في القرن الثامن عشر. وكان من الطبيعي لأب يمثل هذا أن يؤثر في أبنائه بحسم، لا سيما في غياب الأم. ومن هنا غرقت فرجينيا في القراءة منذ صباها منكبّة على أصعب النصوص فقرأت أفلاطون وسبينوزا ومونتانيْ وهي بالكاد تجاوزت سن المراهقة. ناهيك بأن صحتها الهشة كانت تدفعها إلى إبدال الدراسة الجامعية بالقراءات الخاصة. بيد أن الأب لم يبق فترة طويلة مع أولاده إذ سرعان ما رحل هو الآخر عن عالمنا عام 1904 تاركاً للأولاد مكتبة غنية وسمعة طيبة وأصدقاء أوفياء لم يتمكنوا جميعاً على أي حال من تعويض فرجينيا خسارتها، لا سيما منذ رحل بدوره أخوها الفتى طوبي الذي مات غرقاً. ولنقل منذ الآن أن هذا الرحيل الأخير يشكل الخلفية «الحدثية» التي بنت عليها فرجينيا لاحقاً روايتها الكبيرة الأولى «غرفة يعقوب». > ولكن قبل «غرفة يعقوب» الصادرة عام 1922 وكانت فرجينيا بلغت الأربعين من عمرها، كانت أمور كثيرة قد حدثت في حياتها وكانت قد أصدرت كتباً عديدة في المجال الروائي خاصة. أما عند موت الأب ثم موت طوبي، فإن فرجينيا لم تكن قد أضحت كاتبة بعد، بل إنها لم تكن قد حملت اسم فرجينيا وولف. فهذا الاسم أخذته لاحقاً عن زوجها الذي اقترنت به ليونارد وولف. مع هذا فإن سيرة فرجينيا تقول لنا إنها انتمت باكراً إلى تلك الحلقة الأدبية التي كانت تجتمع غالباً في منزلها الأسري وأُطلق عليها اسم «جماعة بلومبسبري». وفي مناخ هذه الحلقة تعلمت فرجينيا أموراً كثيرة في عالم الأدب، إضافة إلى تبجيل الفن والفردية والتقدم، كما تعرفت على العديد من أبرز مثقفي المرحلة بمن فيهم الشاب الذي تزوجته. لقد عاشت المجموعة حتى إطلالة الحرب العالمية الأولى لينفرط عقدها بفعل الحرب، ثم إن انعقدت الجماعة من جديد، بات من الواضح أن الحماسة الأولى قد ولّت. ولكن ليس بالنسبة إلى فرجينيا نفسها التي سرعان ما سوف تصدر خلال الحرب روايتها الأولى «السفر إلى الخارج» (1915) وتتبعها بعد أربع سنوان بالثانية «الليل والنهار». لكن أيّا من تينك الروايتين لم يتمكن من لفت أنظار النقاد حقاً رغم نجاحهما. ففرجينيا وولف، الكاتبة الكبيرة المجددة، لم تكن قد وُلدت بعد. كانت تلك الولادة تنتظر بداية سنوات العشرين، وبخاصة تعمّق الكاتبة الشابة في قراءة كبار المبدعين الذين ستكتشف لديهم تعبيراً عميقا عن القلق الوجودي الذي تعيشه: مارسيل بروست، جيمس جويس وبخاصة هنري برغسون. والحقيقة أن آثار تعمّقها هذا، إذا كانت ستبدو جلية في معظم الأعمال التي ستنتجها فرجينيا وولف منذ ذلك الحين، وصولاً إلى «بين الفصول» الكتاب الأخير الذي وضعته قبل انتحارها عام 1941، فإن الإرهاصات الدالة كلها إبداع وفلسفة وفي العلاقة مع الذات، نجدها في «غرفة يعقوب». > فكما قلنا، في بداية العشرينات كانت فرجينيا وولف قد اكتشف كتابات الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون بالتوازي مع قراءتها جويس وبروست. ومن هنا نجدها، وبعد أن تعاطت لسنوات مع الرواية التقليدية ذات الحبكة والشخصيات التي تسير في مسار فكري وحياتي واضح ونمطي، تصل إلى ذلك التجديد الكبير الذي سيهيمن على أدبها. فـ «غرفة يعقوب» (1922) كانت في الحقيقة تجربة جديدة ليس بالنسبة إلى الكاتبة وحدها، بل بالنسبة إلى فن الرواية أيضاً. ومن هنا إذ تكتب في مذكراتها يوم 10 أبريل (نيسان) 1920: «إنني أريد أن أكتب رواية جديدة كانت تعني بصفة «جديدة» أكثر كثيراً من المعنى المباشر للكلمة»، إذ تقول في يومية لاحقة :»إنني أسير قُدماً في كتابة هذه الرواية التي أعتقد أنها أكثر الروايات التي كتبتها حتى الآن تسلية». ولاحقاً حين قرئت الرواية بدا واضحاً ما تعنيه فرجينيا بكلمة تسلية. ولنذكر هنا أنها حين أنجزت الرواية كانت تقيم في «مونكز هاوس» في المكان نفسه الذي ستعود وتنتحر فيه بعد أقل من عشرين عاماً. ولنقل هنا أن «غرفة يعقوب» وعلى رغم كل المتعة التي وفرتها كتابتها لفرجينيا وولف، بدت حاملة في طياتها إيذاناً بانتحارها المقبل، لكن إشارات أكثر من واضحة إلى موت طوبي قبل ذلك بسنوات. ولنقل أنها النص الذي ربط في شكل لا انفصام فيه بين موت طوبي وموت فرجينيا. > فالحقيقة أن يعقوب الذي نراه أمامنا في الرواية يشكل محورها، إنما هو مستعار مباشرة من طوبي. والرواية تفتتح على الوحدة التي يعيشها وسط هاجس الموت المسيطر عليه في كل لحظة وثانية. فهل كان هاجس الموت يسيطر يا ترى على الشقيق الحقيقي الراحل؟ ليس بالضرورة وبالتحديد لأنه إذا كان يعقوب مرآة لطوبي، فإنه أكثر من هذا مرآة لفرجينيا نفسها، أو هذا ما سوف نتبيّنه لاحقاً على أي حال. أما هنا فلنلاحظ أن ليس ثمة أمور كثيرة، أو حتى أمور قليلة تحدث في نحو الثلاثمئة صفحة التي تتألف منها الرواية. فـ «غرفة يعقوب» ليست رواية أحداث بقدر ما هي رواية شخصيات. ويعقوب نفسه يكاد لا يفعل أو يقول شيئاً في الرواية. هو لا يحضر إلا عبر الآخرين. عبر ما يذكره عنه أولئك الذين عرفوه، وبخاصة منهم فتاتان ارتبط بكل منهما في شكل أو بآخر: كلارا دوران، ابنة الشريحة الوسطى من الطبقة العليا في المجتمع الإنكليزي الذي كان مفعماً بالتراتبية الطبقية حينها، وفلورندا الطالبة الشابة التي عاش، كما يبدو، حكاية غرام معها. ونقول هنا «كما يبدو» لأن لا شيء من هذا كله واضح هنا. كل شيء يُروى لنا من طريق أطراف ثالثة. بل كل الشخصيات التي تدور في فلك يعقوب لن نتعرّف اليها إلا موارَبةً، أي من طريق ما يُروى عنها. وما من مشهد في طول الرواية وعرضها، سوف يقدّم لنا بصيغة مباشرة. لا سيما، كما أشرنا، ما يتعلق بحياة يعقوب القصيرة ومنها خاصة الأوقات التي يمضيها في لندن قبل أن ينتقل عند نهاية الرواية تقريباً إلى إيطاليا ومنها إلى اليونان. > من الواضح في «غرفة يعقوب» التي تختلف جذرياً عن روايتي فرجينيا وولف الأوليين، أن شبه الأحداث وشبه الحبكة وما يشبه الخاتمة، المفتوحة على أي حال، ليست هنا إلا كعناصر تستخدم لخلق المناخ العام الذي هو مناخ الانطباعات المتعددة والمتضاربة التي تمضي وسط دفق شعوري يحرك الشخصيات بحيث تتحول جميعها لتصبح صورة لأفكار الكاتبة نفسها- وربما أيضا قاعدة مواربة لأعمالها التالية، من «مسز دالاواي» إلى «بين الفصول» ومن «أورلاندو» إلى «الأمواج»، دون أن يفوتنا هنا التركيز بين رواية وأخرى على المياه التي كانت ابتلعت طوبي ولسوف تبتلعها هي الأخرى بعد سنوات-، ومن المنطقي إزاء هذا أن يعتبر الباحثون «غرفة يعقوب» البداية الحقيقية لفرجينيا وولف على رغم أن واحدة أخرى من رواياتها الكبرى «عبور المظاهر» أتت زمنياً سباقة على «غرفة يعقوب». > في «غرفة يعقوب»، كما لاحقاً في «مسز دالاواي» و «النزهة إلى المنارة»، نجد أنفسنا في شكل متواصل في مواجهة شخصيات قد لا يصح القول أنها كائنات مأزومة- بالنظر إلى أن التأزم أمر يرتبط عادة بزمنية محددة يعبر عنها-، إنما يصح القول إنها شخصيات تعيش مأزق الوجود طالما أن العيش ذاته يشكل مأزقها الحقيقي، وأن العيش نفسه لا ينفصل بأي حال عن هاجس الموت، وبخاصة هاجس الحزن المتواصل، الذي ليس في نهاية الأمر سوى هاجس الموت والفقدان نفسه. والحقيقة أن علينا أن نلاحظ في خاتمة المطاف هنا أنه إذا كانت فرجينيا وولف قد عبّرت في «غرفة يعقوب» و «مسز دالاواي» و «النزهة إلى المنارة» عن هواجسها الذاتية، فإنها كانت تعبّر أيضاً عن هواجس عالم بين الحربين، الذي كان يعيش موتاً حقيقياً.
مشاركة :