قد تظل الروائية الجزائرية يمينة مشاكرة على هامش المتن الروائي الجزائري إلى الأبد، هي التي رحلت عنّا أخيراً تاركةً روايتيها «المغارة المتفجّرة» (1979) و «آريس» (1999). لم تنل الروائية قسطها من الحضور الإعلامي لسببين أساسيين، أولهما انطوائيتها، علماً أنّها طبيبة نفسانية عملت طويلاً في مساعدة مرضاها على تجاوز محنهم النفسية، والسبب الثاني يعود إلى طبيعة المشهد الأدبي والإعلامي في الجزائر، الذي كثيراً ما ميّزته اللامبالاة، في غياب نقد أدبي يواكب العملية الإبداعية بأدوات منهجية ونقدية علمية. وما لا يعرفه كثيرون أنّ للكاتبة الراحلة قيمة أدبية كبيرة، أوضحها الروائي كاتب ياسين، صاحب رواية «نجمة»، في تقديمه لروايتها الأولى «المغارة المتفجّرة»: «قرأت من هذه المخطوطة نسخاً متتالية، وإذا بدأت بذكر هذه الكلمات، فلكي أبرز أنّ الروائية ليست فقط أديبة، بل إنها طالبة متحمّسة، مارست الطب الاجتماعي والنفسي، وكتبت هذا الكتاب في خضم حياة صعبة ومتقلّبة. هي ليست رواية، إنها شيء أحسن من ذلك بكثير: قصيدة طويلة من النثر تمكن قراءتها مثل رواية مكتوبة بالفرنسية مما يشير منذ البداية إلى انسلاخ مزدوج، أولاً بكتابة رواية «لتمرير الشعر»، وثانياً مخاطبة أهلها وذويها بلغة أجنبية. لقد رأت أمها تبكي، في اليوم الذي علمت فيه أنّ ابنتها الصغيرة التي تفوّقت ببراعة في المدرسة الفرنسـية، نسيت لغتها الأصلية. اليوم وقد أنجبت ثورة الأوراس تحت أعيننا جزائر جديدة، يجب قراءة هذا الكتاب والحث على قراءته، لكي تكون كتب أخرى، ولكي يرفع آخرون صوتهم في الوقت الحاضر في بلادنا... امرأة تكتب، هي بقيمة وزنها بارود». عاشـت الروائـية يمـينـة مـشاكرة أربعـة وسـتّين عاماً، ارتأت خـلالـها البقاء في الظلّ، ولهذا السـبب بـقيـت شخصيتها مبهمة لدى كثير من الأدباء الجزائريين. أمّا الذين كانت لهم فرصة التحدّث إليها، فاكتشفوا مدى شفافية هذا الكائن الذي تُمثّله مشاكرة. ولعلّ شهادة أمين الزاوي، التي قدّمها عقب رحيلها، تُكرّس هذه الحقيقة: «كان لي حظّ الالتقاء بيمينة مشاكرة والتحاور معها مرتين أو ثلاث، تعرفت فيها عن كثب إلى شخصيتها الأدبية ككـاتـبة شفافـة جداً، قـابـلة للانـكسـار في أي لحظة فأدركت أنّ قوتها تكمن في هذه الشفافية». وبحسب الزاوي، فإن غالبية شخصياتها الروائية تشبهها في هشاشتها، بل قابلة للجنون والهوس، لأنّ الحرب الظالمة التي عاشوها لا تترك إنساناً سوياً. فهي حرب ضد سيكولوجية الفرد الذي يجد نفسه في مواجهة عدوان طاغ وموت بشع. أما أكثر ما يُميّز جوانب شخصيتها الأخرى، فهو الخجل لكونها امرأة كتومة لا تتكلم كثيراً، وقد يعود ذلك إلى انتمائها للعالم الشعري أكثر من الواقعي. ويضيف الزاوي بأنّ من يحاورها يشعر بأنها مصابة بألم داخلي عميق لا يسمح لها بمواجهة الواقع إلا من خلال شاعريتها التي علّمتها الاختصار والاقتصاد في الكلمات. وبعكس الكثير من الكُتّاب، نجد أنّ الكاتبة هي منطوية على نفسها، كأنّها تخشى مواجهة العالم الخارجي بأسلوب مباشر. ويذكر الزاوي أنّ من ضمن ما عرفه من لقاءاته بصاحبة «المغارة المتفجّرة»، إقرارها له بأنها كانت تعيد قراءة رواية «نجمة» مرة كل سنة، لدرجة أنّ من يقرأ روايتها الأولى، يجد كثيراً من نقاط التقاطع بينهما، لأنها نص مركّب لا يُسلّم نفـسه للفـهم بسهولة، وقد كان هذا الإعجاب الأدبي بينها وبين كاتب ياسين متبادلاً. فهو أيضاً كان يحبّ كتاباتها ويحترم شخصيتها الأدبية، ويؤكد الزاوي أنّ «لو كانت هناك سلالات أدبية، فسأصنف يمينة مشاكرة في سلالة كاتب ياسين الأدبية».
مشاركة :