-1- لداعٍ لا ينقذ من القسوة والشقاء. أن تحكم عليك ثقافة باستجواب منظم حول ما أنزلتك فيه الأزمنة والأحوال، وما تواضعت عليه هبة الطبيعة بالكتابة حرفة والأدب إبداعاً والصحافة محترفاً. وما بمستطاعك أن تفلت من قيود توثقها عليك صورتك في الأذهان لحد ما تجعل منك ذبيحتهم الدائمة رغم حياتك المتحققة في أطوار معيشتها وإبداعها. لذي القول أن يقول: هناك من يرعاك في أول الطريق أو يضع الظروف المناسبة عتبة إقدام ولي أن أراه في يوسف الخال، وهنالك من يقضي الحياة ليجعل من نفسه دخان فوهات ورعدة مركبات ليجعل من وجوده فعل قهر وفضيحة دائبة ولكم أن تروه أدونيس، وهناك من تبسطه الطبيعة بفطرة الذكاء ولعبة المحاولة ببعض من التخطي والسير علامة ولي أن يكون أنسي الحاج، وما عدا أولئك الثلاثة هناك كثر إما يخلقون ظروفهم بأنفسهم مجاهدة البقاء، وإما تخلقهم الظروف لفراغ المضمار. بين ما كان وما سيكون يجري لحظته أنسي الحاج، إذ تولدته لحظة كتابة عربية رابعة في تحققها عن ثورات الكتابة العربية على مدى ألفي عام مضت. فالأولى تحول الشعر إلى نشيد في بلاط وترتيل إلى عرش قوامه المعلقات بين الحيرة وتدمر، والثانية خروجه نحو الغناء موشحاً بألسنة وأنغام جموع في ذات أندلس لذات صنعاء، والثالثة زجل بأدوار وقدود وعروبي تصدعت بهما حلب والقاهرة، والرابعة في ملاحم إيقاعها التوازي والترادف وفي جملها الإفقار والاطراد صنعتها مدن البحر. وتبدت هذه الكتابة باستعادة دائرية لحضارة الحرف ومتون الأدب، وقام بها كما يقوم بها جماعة فؤادهم الشعر، وروحهم الإبداع. إنهم معلمون كبار يخطر من بينهم حين شق الطريق جبران خليل جبران ومي زيادة وحسين عفيف وألبير أديب وثريا ملحس ومحمد حسن عواد، ورصف الطريق فؤاد سليمان وتوفيق صايغ وإبراهيم شكر الله وبدر الديب، ومشى عليه ليطلع بأسباب سمائه أنسي الحاج وسنية صالح وسيف الرحبي وقاسم حداد ونزيه أبو عفش.. وما كان أنسي الحاج في فضائله ومزاياه إلا ابناً لشجرة كبيرة أثمرته كما أثمرت سواه. لكن ما يخفى أن الثقافي في دورانه تتطلبه وترصده السياسات ولعائنها، فمن ذهنية الاستعمار والاستشراق، ومن ذهنية الاستعراب والاستقلال، ومن ذهنية العسكرة والمشيخة، وغلبة الأهلة وحصر الصلبان، واستضعاف عربها بشوامها ويمنها، وتناقص أجنابها بأروامها وبخاريتها. -2- لداع لا يغفر من البلاء والشقاء. أن تكون خيار الزمن والحرف. ولك عهدة بدأت منذ امرأة استنزعت شعرك بصلاة شهوتها، واصطفيتها بدمائك ومائك في مرآة أحلامك. ورغم أن طريقك ابتدأ منذ 1954 في الأديب والكشاف وما جاورهما، وكتبت شعراً ومقالات خارج الضوء واللعنة، وعلى غفلة من البلايا والشقاء فأودى بك الطريق إلى التجربة فدخلتها ولا منجى! وما بلاياك وشقاؤك سوى أن ثار غبار كثيف من "كائنات أنطون سعادة" فأجرى حواليك النوائب، وكنت حفيد"الرابطة القلمية" بغير ما اخترت وما أنت وحيد، وصرت في سمائك "ملحق النهار" تتلقى الزوابع والتوابع من كنيسة"شعر"... فما كنت تصنع في ما لهوت به ولها بك: في أنك صاحب مقدمة ديوانك"لن"(1960) رفع الفأس جبران وقال ألبير أديب"لمن؟"(1954) فهويت بنفي الاستقبال لما مضى، وإثبات التلقي لما يأتي. في أنك كتبت "قصيدة النثر"، وكانت لعثمة بين "الشعر المنثور" عند جرجي زيدان، و"الشعر الطلق" عند ألبير أديب، و"النثر المركز" عند حسين مردان، وهي تلازم لعبة التعاطي والتبادل بين الديني والدنيوي في الدور والوسيلة أطلقها الشاهق في عليائه فارس الشدياق يوم استنطق رومية الكتاب المقدس، ووازاه إبراهيم اليازجي في نسخة أخرى، فعربها فطفحت تتنضّر بسريانيتها الناجية وعبرانيتها الخافية وعربيتها الصافنة.. في أنك من جماعة "مجلة شعر" عصب الجموح انتصرت للقيم والمبادئ والأفكار في الفن والأدب صورة وشعوراً فيما كانت الجموع تلج في أدواء الاستعمار والاستشراق، وانتصرت لثورة الجزائر، وسقطت غريمتها الآداب في مستنقع النكسة على ذمة هيكل، وبرق شموخ سعادة! المهزوم يبتسم والمنتصر يرتعد! هكذا الدأب غير أنه لم يكن سوى "الرأس المقطوع"(1963)! أضاع العرب"ماش الأيام الآتية"(1965) ب"المراجل الكلامية" أو "الظاهرة الصوتية" على قول من سكنه العالم الآخر عبدالله القصيمي الكثير مما يمكن أن يكون.. فتضج في رأس الانطفاء والانهيار:"ماذا صنعت بالذهب؟ ماذا فعلت بالوردة؟" (1970). وتطلعت، يا أنسي، إلى "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"(1975). وبقيت "الوليمة "(1994) بين أفواههم وضروسهم حيث هي البلايا في أنك صاحب المقدمة غير ابن خلدون، وبادئ قصيدة النثر لا جبران خليل جبران، وأنك من جماعة "مجلة شعر" صورة عن لبنان التي تمنى لها القصيمي "مزيداً من الحضارة ونقصاناً في العروبة"! -3- لداع يتقادم من النجاة والسكينة. في عصر خارجنا سيرونك نجماً في ليل الكتابة. هناك أقمار خضر وهناك شموس حمراء. وأنت تلد نجومك من الغيوم. كيف يرونك في شهوات امرئ القيس وأبي نواس راهب حب؟ كيف يرونك في مطهرات ابن عربي وابن الفارض فاجر الشوق؟ تعيش في "كلمات. كلمات. كلمات"(1998)، وتكتب خواتمك منذ 1991 و1997 تقول انك "تشعر برغبة التعبير بأساليب مفتوحة". أنت الآن بين المعيش والمقول. تحقق "الكتابة عبر النوعية"على مرمى عدسة إدوار الخراط، وتبقى لك الكتابة في الشعر من الأدب "نظرة النهر المتجه إلى البحر" لتغتسل بالبلاء باختيارك لا تشقى بما ينعم عليك الجهل، فأنت في نعيم الحرف تعيش. عش خالداً!
مشاركة :