بعيداً عن "الردح" الإعلامي الذي يمارسه بعض المحسوبين على الشعب اللبناني وما تفرضه وسائل وقنوات مليشيات "حزب الله" وعمّال محور "الممانعة" السوري - الإيراني وفلول اليساريين ستظل لبنان في حاجة إلى عمقها العربي أكثر من أي وقت مضى. ولعل مشكلة لبنان الأساس تكمن في أن مشكلاته عادة ما تكون أكبر من مساحته ومن يقرر متى وكيف تناقش هذه المشكلات دائماً يكون خارج الحدود اللبنانية. ومن هنا تكونت شخصية اللبناني ذلك "البيّاع" "الشاطر" الذي يستطيع بكل مهارة التقاط رزقه وسط هذه المتناقضات وتحويل ما يصله من أزمات إلى بضاعة جذّابة يسوقها بكل "شطارة". وحتى نستوعب المسألة اللبنانية لا بد من إعادة قراءة هذه الخصوصية اللبنانية مع تحرير بعض "المسلمات" الثقافية والعاطفية التي أطّرت علاقة لبنان بمحيطه العربي والخليجي تحديداً. هذا هو لبنان الذي لم يتمكّن في كل تاريخه الحديث -بتدبير نخبه وتياراته- من تطوير نموذج وحدة وطنية سياسية تقوم على "المبدأ والفكرة الوطنية" بدل انتهازية "تقاسم المصالح" بحسب ما يملك كل طرف من دعم "خارجي". وحتى في حقبة الدولة العثمانية كان شيخ كل عشيرة أو طائفة يتمتع بالاستقلال الذاتي في مقاطعته مقابل دفع الضرائب من عرق الفلاحين والعمال ضمن نظام "المقاطعجية" الذي عُرف آنذاك في جبل لبنان حين تقاسمت النخب وقتها الأرزاق والألقاب التي ينعم بها عليها الوالي العثماني. واستمرت لعبة المصالح وقت الانتداب الفرنسي وفي مرحلة الشد والجذب بين قومية عبدالناصر وأممية محور حلف بغداد في الخمسينيات وما بعدها. وهكذا تناوبت ذات المصالح بأسماء متعددة (يوجد في لبنان قرابة 18 طائفة) حتى تعهّدت فرق لبنانية للإسرائيليين بعناوين طائفية ووطنية بمهمة طرد الفلسطينيين من لبنان وأشعلت حرباً أهلية ضروساً دامت قرابة 17 عاماً راح ضحيتها قرابة 150 ألف قتيل. ولهذا لم يكن زمن "حزب الله" وإيران وفي ذيلها سوريا حالياً إلا تكملة لمسيرة طويلة من رهن المصير اللبناني للخارج. أما ما يثار عن سيطرة اللبنانيين على المشهد الإعلامي العربي فليس سببه أنّها تجارة ضمير ولا ينجح فيها إلا من يجيد التجارة في الضمير كما يردّد بعض من لا يملكون أسباباً موضوعية. الواقع أن الشطارة اللبنانية عرفت مواضع التأثير وما يسمى "Easy Money" فكان هذا النشاط في الإعلام وغيره من المهن المشابهة. وهذه الشطارة صنعت الغيرة من الشخصية اللبنانية وروّجت بعض هذه المقولات حتى أنّك تسمع في الخليج بعض المهاجرين العرب وهم يتندرون أو يتحسرون كيف أن اللبناني إن عمل في الطب فهو في مجال التجميل، وإن عمل في التدريس فهو مدرس موسيقى وفنون، وإن غامر بدخول قطاع التشييد والبناء فهو لا يظهر بنظارته الشمسية إلا بعد أن يقضي العمال أشهراً في لهيب الصحراء ليعرض "كتالوجات" أنواع الستائر وديكورات غرف النوم ويقبض أكثر منهم. قال ومضى: بماذا يُفاخر من تجارته ضميره ... تارة يبيعه وتارة يُعيره!.
مشاركة :