سواء حشرته الأنظمة في السجون كما الحال في سوريا، أو مكنته من الوصول إلى دواليب البلاط كما الحال في قطر، لا يتقن الإسلام السياسي شيئا آخر غير الشكوى والتظلم.العرب سعيد ناشيد [نُشر في 2017/11/13، العدد: 10811، ص(9)] يصرّ الإسلام السياسي على لعب دور المظلوميّة حتى ولو قُدمت إليه كل التنازلات الممكنة على طبق من ذهب، حتى ولو كان شريكا في الحكم كما هو الحال في المغرب، بل حتى ولو كان ينفرد بالحكم كما هو الحال في تركيا. يمارس دور الضحية في كل أحواله، سواء طاردته أميركا في جبال قندهار أو أغدقت عليه بالأموال في سائر العواصم الأخرى، سواء حشرته الأنظمة في السجون كما الحال في سوريا الأسد، أو مكنته من الوصول إلى دواليب البلاط كما الحال في قطر حمد. لا يتقن الإسلام السياسي شيئا آخر غير الشكوى والتظلم، بل يتقن لعبة المظلومية ببراعة ملفتة ومحيرة أيضاً. كمثال من المغرب يمكننا ملاحظة أن مجمل البنية الخطابية لرئيس الحكومة الحالي وكذلك لرئيس الحكومة السابق، تقوم على منطق المغلوبية على طريقة “لا نستطيع فعل ما يجب فعله لأننا مغلوبون على أمرنا”. نحن أمام حيلة سخيفة تقوم على ما يلي: إذا لم يكن لديك تصور واضح للعمل الذي تنوي القيام به فقل للناس، إن بعض الناس لا يتركونني أعمل، أو لا يوفرون لي البيئة المناسبة لكي أعمل صالحا، أو يرفضون التعاون معي لكي أعمل مثقال ذرة، وما إلى ذلك من بكائيات الفاشلين. إنها الحيلة نفسها التي رأيناها في تونس إبان حكم الترويكا وفي المغرب خلال حكم العدالة والتنمية. مثال آخر، لا يزال الإسلام السياسي بقادته وقاعدته وكافة كتائبه الإلكترونية يشتكي صباح مساء من مكانة المواد الدينية في المدرسة، ويروج بأنها مكانة لا تزال متدنية ولا ترقى إلى مستوى الإسلام الذي يجب أن يعلو ولا يعلى عليه، بمعنى أنه يجب أن يعلو في تفاصيل التفاصيل على الجبر والهندسة والقياس إلخ. وهم يولولون رغم كونهم يتحكمون في مناهج التعليم الديني بصفة شبه كلية. والطامة الكبرى أن ذلك الادعاء المتهافت بتدني مكانة المواد الدينية يجد آذانا صاغية حتى حين تقول الأرقام عكس الشّكوى. فما الذي تقوله الأرقام؟ مجموع ما يكون قد درسه التلميذ المغربي الحاصل على الباكالوريا من ساعات مادة التربية الإسلامية هو 848 ساعة بالتمام. وإذا احتسبنا المواد الحاملة (لأن القيم الدينية تحتلّ في الغالب الخُمس الأول من مقررات اللغة العربية لجميع المستويات) ستتعدى 1200 ساعة، وهي بذلك تتفوق على جميع المواد الأخرى العلمية والأدبية والفنية. رغم كل ذلك هناك من لا يزال يطالب بمزيد من الزيادة في مواد الدين، والتي يزعم تجار الدين بأنها لا تزال مظلومة وتستحق ساعات أكثر وأكثر. وكمقارنة واضحة فإن التلميذ الحاصل على الباكالوريا يكون قد درس 210 ساعات من التاريخ و209 من الجغرافيا. فهل تعرفون ماذا يعني التاريخ والجغرافيا لا سيما بالنسبة للتلاميذ الصغار؟ إنهما يعنيان تنمية القدرة على التموقع في الزمان والمكان، ومن ثمة بناء الوعي لدى الطفل، لذلك، فأمام تردي الوعي، ليس مستغربا أن ينتهي المسار التعليمي بالتلميذ إلى شعوره بأنه لم يفهم الدين فهما جيدا وصحيحا، وسيحتاج دائما إلى شيخ يفكر له في أمور دينه. هذا يعني بكل بساطة أن 848 ساعة كاملة (بل أكثر) قد انتهت إلى لا شيء، بل انتهت إلى أسوأ من لا شيء. طبعا، نحن هنا نتحدث عن التعليم العمومي العصري حصرا، أي التعليم الخاضع لمقررات وزارة التربية الوطنية. لكن، ماذا عن التعليم الديني بأنواعه الثلاثة والخاضع لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية؟ ماذا عن الكتاتيب القرآنية؟ ماذا عن المدارس العتيقة؟ ماذا عن جامعة القرويين بجميع كلياتها؟ علما بأن رقم عدد المستفيدين من التعليم الديني بالمغرب يقارب نحو نصف مليون متعلم موزعة على الأنماط الثلاثة. إذا استثنينا نسبة قليلة فالغالبية العظمى تنتهي إلى نفس المآل: هناك شيخ يفكر للشخص في أمور دينه ودنياه. والمتدين الشاطر هو من يسأل شيخه في كل تفاصيل حياته، من السرير إلى العمل، ومن تفاصيل الحمام إلى ما يجب أن يراه أو لا يراه في محطة القطار. الأهم في كل هذا ألا يسأل المرء عقله؛ فهنا يكون السؤال بدعة. والأهم فوق كل شيء ألا يفكر المرء أبدا طالما العهدة دائما على الراوي، والحساب في آخر الحساب على الشيخ المفتي وما على المؤمن إلا الطاعة والتسليم. في عالم اليوم الذي يصفونه بـ”جاهلية القرن العشرين”، أكثر من ثلاثة ملايين مسجد في كل أنحاء العالم. حتى في فرنسا العلمانية فإن عدد المساجد يتزايد وعدد الكنائس يتراجع. رغم ذلك، يصر الإسلام السياسي على أن يصدع رؤوسنا بالقول إن الإسلام في خطر، وأن المسلمين مستضعفون في الأرض، سواء غُلبوا أو كانوا من الغالبين، سواء اعتدوا على الآخرين أو كانوا من الهاربين. كاتب مغربيسعيد ناشيد
مشاركة :