لم يكد رئيس الحكومة سعد الحريري أن «يضع النقاط على الحروف» في ما خص استقالته التي «علقتْ» منذ إعلانها في محاولاتِ «محو» أبعادها السياسية ضارباً موعداً مع عودة أكيدة الى بيروت «خلال يومين او ثلاثة» على قاعدة الاستفادة من خطوته التي أرادها لإحداث «صحوة وصدمة إيجابية» وبلوغ «تسوية نهائية حقيقية مع حزب الله بالموضوع الإقليمي» والترجمة الفعلية لشعار «النأي بالنفس»، حتى برزتْ إشاراتٌ «سريعة» من طهران والحزب تشي ببدء رسْم «السقوف» والخطوط الهجومية والدفاعية لمرحلة انطلاق المفاعيل السياسية للاستقالة التي لم يعد ممكناً «ارتهانُها» تحت عنوان «العودة أولاً» الذي رفعه الحُكم في لبنان و«اختبأ» وراءه حلفاء إيران في بيروت. ولم يكن أكثر تعبيراً عن عملية «إعادة التموْضع» من ايران و«حزب الله» بملاقاة إطلالة الرئيس الحريري ليل اول من أمس، عبر شاشة تلفزيون «المستقبل» للمرة الأولى بعد إعلانه استقالته من الرياض في 4 نوفمبر الجاري، من إعلان الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي أن «استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري كانت فجائية للغاية ومشبوهة»، مؤكداً أن «ايران لا تتدخل في الشؤون اللبنانية»، ومتمنياً «أن يعود إلى بلده لبنان بأسرع وقت»، فيما كان رئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله» هاشم صفي الدين يشنّ أول هجوم من الحزب على السعودية على خلفية خطوة الحريري، ملاقياً في أحد جوانبه الإعلام القريب منه الذي حاول تصوير مواقف رئيس الحكومة على أنها في سياق تراجُع سعودي وأن رجوعه يعبّر عن «فشلٍ» للرياض. ولا يمكن قراءة هاتين الإشارتيْن من خارج زاويتيْن تؤشران على «نقلة جديدة» على «رقعة شطرنج» المواجهة السعودية - الإيرانية التي جاءت استقالة الحريري على وهجها: * الأولى أن الحريري مهّد لعودةٍ ترتكز على الانتقال من «ربْط النزاع» مع «حزب الله» الى «النزاع السياسي» لوقف تدخُّله في شؤون الدول العربية ومعالجة موضوع سلاحه ببُعديه الاقليمي والداخلي، مع تأكيد أن استقالته لا تعني سقوط التسوية التي كانت أنهتْ الفراغ الرئاسي بمقدار ما أنها «هجوم بالانسحاب» على قاعدة تحسين شروط هذه التسوية وتحصينها بعدما اختلّت على مدى عام لمصلحة «حزب الله» وجرّ لبنان الى المحور الإيراني ومنْح الحزب فرصة التدارُك ولا سيما في ما خصّ تدخله في اليمن قبل ان تنلفت الأمور من امكانات المعالجة لبنانياً، بما يعني إطلاق رئيس الحكومة المسار السياسي للاستقالة، التي اعترف ضمْناً بأنها ليست نافذة دستورياً إذ لم يقدمّها الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفق العرف وجهاً لوجه. وحتى الباب الذي تركه الحريري مفتوحاً أمام إمكان التراجع عن الاستقالة على قاعدة «أن نحترم النأي بالنفس... بما يعني انه لا يمكننا ان نرى فريقاً في لبنان موجود في اليمن أو في أماكن أخرى، أو ننجر إلى علاقات مع النظام السوري»، بدا برسْم رئيس الجمهورية الذي، وفي موازاة تأكيد رئيس الحكومة المستقيل على العلاقة الجيدة جداً معه، دعاه الى حوار حول «سلاح حزب الله وهذا امر يقرره رئيس الجمهورية». علماً ان النائب عقاب صقر (من كتلة الحريري) ربط العودة عن الاستقالة بأن «يبدَّل حزب الله استراتيجيته في المنطقة التي جرت الويلات على لبنان ويوقف تدخله باليمن وسورية والبحرين والكويت، وإلا مفاعيل الاستقالة حاصلة». * والزاوية الثانية إكمال الرياض اندفاعتها بوجه إيران عبر طلبها عقد اجتماع طارئ للجامعة العربية مستوى وزراء الخارجية العرب حُدد موعده الأحد المقبل لمناقشة «كيفية التصدي للتدخلات الإيرانية في الدول العربية»، وهو ما يؤشّر على فصْل جديد في المواجهة بين المملكة وطهران التي اكتسبت بُعداً أكثر خطورة بعد «العمل الحربي» الذي تمثل في إطلاق ميليشيات الحوثي في اليمن صاروخاً بالستياً باتجاه الرياض. وفي موازاة ذلك، وعلى وقع الإعلان عن استقبال الحريري في دارته في الرياض امس رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في السعودية ثم السفير الألماني فالسفير البريطاني، ساد ارتياحٌ عام في بيروت حيال إطلالة الحريري التي حملتْ، رغم ملامح التأثر التي بدت على وجهه واختناق الكلمات في حلقه عندما قال «سعد الحريري دايما بيقول لبنان أولا وأنا بروح على دول بشوفهم بيغاروا على لبنان أكتر من اللبنانيين»، تأكيداً على أنه «حرّ» في المملكة التي شدّد على علاقته مع قيادتها من «الملك سلمان الذي هو بمثابة والد لي» الى «ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان الذي تربطني به علاقة ممتازة ومميزة»، رغم استمرار المشكّكين، ولا سيما من «حزب الله» وحلفائه في التعاطي مع مجريات المقابلة على أنها تمت «تحت الضغط». وكان لافتاً كلام الرئيس عون أمس، الذي نقل عنه زواره في معرض إشادته بايجابيات تضمّنها كلام الحريري، وتشديده على «أن أولوية الاولويات تبقى انتظار عودة الحريري مع عائلته ليُبنى على الشيء مقتضاه». وفي حين استوقف دوائر مراقبة إضافة عون «عائلة الحريري» الى «لائحة العودة» التي يشترطها لبدء المفاعيل السياسية والدستورية للاستقالة، تساءلوا إذا كان ذلك في سياق محاولة جديدة لتأخير التعاطي مع هذه المفاعيل، تراجع هذا المناخ مع البيان الذي صدر عن المكتب الإعلامي للقصر وفيه ان الرئيس «سُر بإعلان الحريري عن قُرب عودته الى لبنان، وعندها سنطّلع منه على كافة الظروف والمواضيع والهواجس التي تحتاج الى معالجة»، لافتاً الى «ان الحملة الوطنية والديبلوماسية التي خاضها لبنان أعطت نتائج ايجابية في ما يتعلق بوضع الرئيس سعد الحريري ومواقفه»، وان عون قدّم «ملاحظات إيجابية في شأن الموقف الميثاقي والدستوري للحريري من ان الاستقالة يجب ان تُقدَّم لرئيس الجمهورية، وتأكيد الحريري ان التسوية السياسية ما تزال قائمة وانه حريص على الود السياسي والشخصي مع رئيس الجمهورية إضافة الى تركه كل الأبواب مفتوحة بما فيها عودته عن الاستقالة». وفيما برز تركيز رئيس البرلمان نبيه بري في مقاربة إطلالة الحريري على «ان العدول عن الاستقالة فيه عدالة»، سارع مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان الى اعتبار ان حديث الحريري المباشر من السعودية «شكل ارتياحاً لدى اللبنانيين وتفاؤلاً بعودته ودحض كل الإشاعات والتأويلات التي انتشرت»، لافتاً الى ان رئيس الحكومة «بين أهله وإخوانه في الرياض».
مشاركة :