إن رحلتنا داخل دراما تعليمية تعلمنا الفرق بين ما نراه وما نعتقد أنه تفسير لما نراه، ويحرص أساتذة الدراما طوال الوقت على سؤال أنفسهم وتلاميذهم: "كيف استنتجت/وصلت لهذا الافتراض/التفسير من خلال ما رأيناه معاً؟ وهل ما رأيناه كافٍ لنتأكد من استنتاجنا أم أننا بحاجة إلى معلومات أخرى؟ هل لديكم اقتراحات لطريقة يمكننا بها أن نحصل على هذه المعلومات التي ستؤكد لنا استنتاجاتنا؟". الدراما التعليمية في جوهرها رحلة تساؤل واستقصاء وتأمل. وإنكم ستنبهرون، كما أنبهر أنا، من قدرة تلاميذنا على تحليل العالم وإخلاصهم في عملية استنطاقه واكتشافه، ومن قدرتهم على أخذنا لمناطق تعلّم لم نكن أن نحلم أن نخوضها، عندما نتيح لهم الفرصة ونهتم بالطرق التي نسلكها أكثر من الاهتمام بالوصول إلى إجابات معينة في رأس المعلّمين. بعد أن يصف شركائي ما الذي يرونه، أقول: "هل أثار ما رأيتموه أية أسئلة داخلكم؟ أنا مثلاً يراودني سؤال: لماذا توجد وسادة كبيرة جداً في هذه الدائرة حول النار ووسائد أخرى كثيرة منخفضة؟"، قد يحاول أحد الطلاب الإجابة على سؤالي، لكنني سأشجعه أن يطرح سؤالاً لا أن يجيب. وهكذا ستبدأ تساؤلات شركائي: "لماذا يوجد عصا ووشاح؟" ألاحظ أن السؤال يستخدم صيغة الاستفهام (لماذا) والتي استخدمتها أنا في سؤالي، أستغل هذا السؤال وأوجه كلامي للمجموعة: "من يستطيع أن يسأل نفس السؤال السابق مستخدما أداة استفهام غير (لماذا)؟"، يعيد أحدهم صياغة السؤال "من يملك العصا والوشاح؟". وهكذا أفتح أمامهم سحر استخدام صيغ الاستفهام الأخرى، وبهذا أيضاً أتيح فرصة لمن لا يملكون أسئلة أن يشاركوا بإعادة أسئلة زملائهم مستخدمين صيغ استفهام أخرى. يمكن أيضاً أن أستغل مواقف التساؤل هذه بسؤالهم عن الفرق الذي حدث في معنى السؤال وفهمنا له عندما غيرنا أداة الاستفهام مثلاً. إن تشجيع أنفسنا على طرح السؤال بشكل عام هو تمهيد ضروري لتعلم كيفية طرح السؤال "المناسب" في المراحل المتقدمة. إن كثيراً جداً من الارتباك في فهم الأحداث والتفاعل معها، فهم مواقف الشخصيات، التعاطف معهم، يمكن حله إذا طرحنا السؤال المناسب، والدراما التعليمية تهتم بهذا البعد. لقد كنت أقول لمالك إن ميزته الجوهرية ليس في كونه يسألنا أسئلة مفتوحة غير موجهة تسمح لنا بأن نتناقش وأن نعبر عن أنفسنا وأفكارنا، ولكن ميزته الحقيقية هي قدرته على توليد الأسئلة منّا، إنه بطريقة سحرية يدفعنا لأن نسأل، ونبحث عن صياغة السؤال المناسبة لما يشغلنا وما يُشكل علينا ونحاول طرحها. وهذه المهارة شديدة التقدم من وجهة نظري أتمنى أن أكتسبها يوماً ما. إن السحر الذي كنت أشعر به عندما أتمكن من صياغة السؤال بنفسي لا يمكن أن أنساها أبداً. الآن آخذ خطوة جديدة مع شركائي داخل الدراما وأقول: "إن أسئلتكم جوهرية جداً ونحتاج معرفتها حتى نفهم ما الذي يجري بالفعل. لكنني لا أعرف ما الذي يمكن أن نفعله، هل لديكم اقتراحات لنعرف ما الذي يحدث في هذا المكان حول النار؟". إنني الآن أطلب مساعدة شركائي للتقدم في الدراما للأمام، وأنا أعني هذا الطلب، بمعنى أنني مستعد أن أخوض معهم طرقهم التي يريدون أن يجمعوا المعلومات بها، سواء كان اقتراحهم "أن يختبئوا بين الأشجار ويراقبوا حتى يظهر أصحاب الأغراض" أو "أن يركّبوا كاميرات مراقبة"، أو "أن يزرعوا ميكروفونات"، أو "أن يجمعوا بصمات ويرسلوها للمختبر"، لكننا سنخوض نقاشاً جاداً ومنطقياً حول هذه الاقتراحات، مثلاً: "هل من حقنا مراقبة أشخاص دون أخذ إذنهم؟"، أو "كيف سنحمي أنفسنا إذا كنا نريد مراقبتهم بين الأشجار، أليس من المحتمل أن يكونوا مسلحين؟"...الخ. هذه النقاشات التي ترسخ لجدية العمل، وأهمية دورهم فيه، وأهمية المعرفة التي سنحصل عليها لأننا نبذل كل هذا الجهد والتخطيط من أجلها. وطالما كانت مبررات شركائي منطقية سأقبل بها، وسأشجع على نقاش داخلي فيما بينهم أيضاً. لكن هذا يضع حملاً على كاهل المعلم أيضاً، فالمعلومات التي سيتم كشفها يجب أن تكون مرضية للمشاركين ووقوداً لمزيد من التساؤل والفضول بشأن القصة التي نحاول اكتشافها. لنفترض الآن أنهم اختاروا أن يختبئوا بين الأشجار لمراقبة المكان حتى يتحققوا، وأننا قد اتخذنا كل إجراءات السلامة التي ستحمينا من أي خطر. فهذا يعني أننا رسمنا شجيرات على أوراق كرتونية لنختفي خلفها، وقمنا بتعيين مراقبين من بيننا ليقوموا بتنبيهنا حال الضرورة، ونصبنا بعض الفخاخ ليقع فيها مهاجمونا وأخفيناها تحت الشجيرات الكرتونية...إلخ، وكل هذه الإجراءات هي اقتراحات الأطفال ومن تنفيذهم. الآن أخبر شركائي أنني سألعب دور أحد الجالسين في المجلس حول النار، عليهم أن يراقبوني جيداً، ويسمعوا كل ما سأقوله، وأن يحافظوا على أنفسهم مختبئين حتى لا تفسد خطتنا. أتجه ناحية الـbean bag وأرتدي الوشاح وأحمل العصا بطريقة زعيم قبيلة، ثم أقول بلهجة الزعيم وأنا أتحرك ناحية الشجيرات التي يختبئ وراءها التلاميذ: "فلتسمحوا للزعيم تراوري أن يبارك بقعتنا، ويتأكد من خلوّها من الآذان المتلصصة قبل أن يخبركم بسبب اجتماعنا"، طبعاً يتوتر التلاميذ ويتحفزون، أقترب منهم بحيث يشعرون بالخطر لكن دون تهديد حقيقي، ثم أعود لحلقة النار وأوجه كلامي ناحية الوسائد الأخرى الخالية، الآن الأعين الصغيرة تتربص بي، أقول بلهجة فخمة: "بسم إنكاي إلهنا العظيم، ومن أجل أسلافنا الحكماء الذين يراقبون شعبنا من السماء، ومن أجل أبنائنا الذين ستلدهم أرحام نسائنا بعد آلاف مواسم الحصاد، جمعتكم اليوم يا حكماء شعبنا من أجل خطب جلل، فإذا لم نحسن التصرف لن تعود أرضك يا أوكونكو تثمر من أجلك، وقد لا يعود أولادك التسعة يحترمونك يا باكو، وقد تطردك أمك الكبيرة من البيت واصفة إياك بأنك لست رجلاً يا جامينا. إنني أجمعكم هنا بسبب ذلك الحوت العملاق النائم على شاطئنا، رسالة الأسلاف التي نحتاج أن نفهمها قبل فوات الأوان. لقد أنهيت كلامي أمام إنكاي والأسلاف وأمامكم، وأذني وقلبي مستعدان لتلقي مشورتكم وحكمتكم، فلتتفضلوا!". بعد ذلك أقف ساكناً قليلاً، ثم أنزع الوشاح وأضع العصا مكانهما، وأعلن للأطفال أن المشهد قد انتهى وأنني المعلم مرة أخرى، وأننا سنكمل في المرة القادمة؛ لأننا حصلنا على معلومات تبدو مهمة ونحتاج أن نفكر فيها قد داهمنا الوقت! يعترض الأطفال طبعاً، هل تريد أن تنهي بعد أن حصلنا على هذه المعلومات المهمة؟! نريد أن نعرف ما الذي سيحدث؟! عندما نقوم بتصميم دراما تعليمية تمتد لحلقات، فإننا يجب أن نراعي كمعلمين أن تكون نهايات كل حلقة مشوقة، تدفع الأطفال لأن يحملوا الحكاية إلى بيوتهم ويتناقشوا حولها حتى لقائنا القادم، إن القفلات المشوقة لحلقات الدراما التعليمية تساعدنا أن ننقل التعلم إلى حياة تلاميذنا خارج قاعات الدرس. الآن سأقف هنا؛ لأطلب من القراء المهتمين بتعلم الدراما التعليميّة أن يرسلوا لي بعض الأشياء كمحاولة تجريبية لأن تكون سلسلة المقالات هذه تفاعلية قدر الإمكان: 1. بناء على خطاب الزعيم في الخطوة الأخيرة، إلى أي موضوعات التعلم يمكن أن تتوجه القصة (التغير المناخي مثلاً) هل لديكم اقتراحات أخرى؟ أطلقوا لخيالكم العنان وأرسلوا لي، اكتبوا في الرسالة أكبر عدد من الاقتراحات الممكنة وبينوا كيف استنتجتموها/استلهمتموها/خرجتم بها من خطاب الزعيم. (أرجو أن ترسلوا اقتراحاتكم خلال الثلاثة أيام التالية). 2. أحب أن أسمع تأملاتكم حول ما قرأتموه، تساؤلاتكم، اقتراحاتكم، ما الذي أعجبكم أو لم يعجبكم. نصيحتي ألا تحوّلوا التأملات إلى قصائد ذم أو مديح، فهي بالأساس مساحتكم التي تدركون من خلالها ما الذي تعلمتموه أنتم، وأثار فضولكم أنتم، إنها محاولتكم لأن يكون تعلمكم مدركاً ومشاهداً، اكتبوا لأنفسكم قبل أن تكتبوا لي. (يمكنكم أن ترسلوها في أي وقت). ملحوظتي الأخيرة: هذه الدراما بتفاصيلها التي أحكيها من وحي خيالي، ولكنها مبنية على تجارب دراما حقيقية، وأحكيها بهذه الطريقة حتى أسهل نقل ما أفهمه عن الدراما التعلّمية. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :